24 عاما على اتفاق أوسلو.. القدس وخنجر التهويد

اتفاق أوسلو عنوانه "24 عــاماً على اتفاق أوســلو- القدس
بعيدا عن شعارات الواقعية السياسية وتضاؤل الخيارات أمام منظمة التحرير الفلسطينية، التي اتخذها البعض مبررا ومسوغا لعقد اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر/أيلول من العام 1993، فقد أصبح واضحا للجميع مع حلول الذكرى 24 للاتفاق، أنه كان مصيدة سياسية للفلسطينيين، ولا يختلف كثيرا في تداعياته الكارثية عن وعد بلفور، على الأقل في ما يتعلق بقضية القدس.

وبالعودة إلى نص الاتفاق، فقد نص على تأجيل المفاوضات حول الوضع النهائي لمدينة القدس، بالإضافة إلى قضايا اللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه، إلى المرحلة الثالثة والأخيرة، التي امتدت حتى الآن 24 عاما.

بالعودة الى نص الاتفاق، فقد نص على تأجيل المفاوضات حول الوضع النهائي لمدينة القدس، بالإضافة إلى قضايا اللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه، إلى المرحلة الثالثة والأخيرة التي امتدت حتى الآن 24 عاما

واكتفى موقعو الاتفاق مقابل هذا التأجيل برسالة مخادعة بعث بها شمعون بيرس وزير الخارجية الإسرائيلي في حينه إلى وزير الخارجية النرويجي "هولست" في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1993، ونصت الرسالة على "اعتراف إسرائيل بالمصالح الوظيفية لمنظمة التحرير في مدينة القدس، وأن جميع المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، بما فيها المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية، بالإضافة إلى بيت الشرق والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية تؤدي مهمة رئيسية للسكان الفلسطينيين وتتعهد إسرائيل بعدم عرقلة نشاط هذه المؤسسات، وقد نقل هذا التعهد إلى منظمة التحرير.

ومن المفارقات أنه تم تعديل رسالة "هولست" في إعلان واشنطن الصادر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين والملك حسين في يوليو/تموز 1994، فقد نص الاتفاق الإسرائيلي-الأردني على أن إسرائيل تحترم الدور الحالي للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند إجراء مفاوضات الوضع النهائي ستولي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن.

ويتضح من رسالة "هولست" وتعديلاتها أن إسرائيل لم تتخل عن سيطرتها عن مدينة القدس، فعلى الجانب الفلسطيني جعلت منظمة التحرير طرفا مفاوضا فقط في القضايا التي تؤثر على حياة المقدسيين، وعلى الجانب الأردني، جعلت الأردن طرفا مفاوضا بشأن القدس في ما يتعلق بأماكن العبادة الإسلامية فقط.

وأعقبت هذه المقاربة الإسرائيلية بعد شهر واحد فقط، في أغسطس/آب 1994، موافقة الكنيست الإسرائيلي بأغلبية 77 صوتا مقابل تسعة أصوات على قرار ينص على أن القدس الموحدة ستبقى عاصمة إسرائيل الأبدية، وصوت إلى جانب القرار جميع الوزراء في حكومة إسحق رابين.

يتضح مما سبق أن إسرائيل مارست الخداع من خلال سن تشريعات وفرض حقائق جديدة تحدد خلالها سلفا نتائج مفاوضات الحل النهائي على القدس، وهي أن تبقى موحدة وعاصمة للكيان الإسرائيلي.

إذا ألقينا نظرة على القدس قبل اتفاق أوسلو، فسنجدها كانت بمثابة عاصمة سياسية واقتصادية وثقافية للفلسطينيين، فضلا عن مكانتها الدينية والتاريخية الإسلامية والمسيحية

وإذا ألقينا نظرة على القدس قبل اتفاق أوسلو، فنجدها كانت بمثابة عاصمة سياسية واقتصادية وثقافية للفلسطينيين، فضلا عن مكانتها الدينية والتاريخية الإسلامية والمسيحية.

كانت المدينة -رغم الاحتلال- المدينة الفلسطينية الأكثر نموا وازدهارا، تحتضن عشرات المؤسسات الخدماتية الصحية والتعليمية والثقافية والإعلامية، وتقدم خدماتها ليس فقط للمقدسيين، بل لكل أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع.

وكان بيت الشرق يشكل عنوانا سياسيا ومرجعية وطنية ومركزا يقدم كافة الخدمات للمقدسيين، وكان محجا سياسيا للقناصل الأجانب، ومقرا للوفد الفلسطيني المفاوض في مفاوضات مدريد وواشنطن برئاسة المرحوم د. حيدر عبد الشافي.

وكانت القدس تحاكي المدينة المحررة، ولم يكن الاحتلال يملك من أمر المدينة غير مظهره العسكري فقط.

ولم يمض وقت طويل على توقيع اتفاق أوسلو حتى قلبت إسرائيل ظهر المجن، فقد تخلت عن تعهداتها بالحفاظ على الوضع القائم للمؤسسات الفلسطينية في القدس، وأقدمت على إغلاق بيت الشرق والغرفة التجارية ونحو خمسين مؤسسة تعليمية وصحية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإعلامية، وباشرت حربا متمادية لا هوادة فيها، استهدفت كافة مكونات القدس؛ أرضا وسكانا ومؤسسات ومقدسات.

وبإغلاق بيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية الأخرى فقدت القدس مركزها السياسي ومرجعيتها الوطنية التي انفرط عقدها، وبدأت إسرائيل توظيف اتفاق أوسلو بتأجيل التفاوض حول القدس كمظلة زمنية وقانونية لتسابق الزمن في تهويد و"أسرلة" القدس عبر أربعة محاور: العزل والحصار والإحلال والاستيطان.

أولا: العزل
قامت إسرائيل بعزل مدينة القدس ميكانيكيا من خلال الجدار والحواجز على مداخل القدس عن بقية المدن الفلسطينية، وعزل الأحياء المقدسية عن بعضها البعض من خلال إقامة بؤر استيطانية، والتحكم في طرق التواصل بين هذه الأحياء.

إسرائيل قامت بعزل مدينة القدس ميكانيكياً من خلال الجدار والحواجز على مداخل القدس عن بقية المدن الفلسطينية وعزل الأحياء المقدسية عن بعضها البعض

ثانيا: الحصار
محاصرة الوجود السكاني الفلسطيني في مدينة القدس في أضيق مساحة ممكنة، والحد من توسعها من خلال مصادرة أكثر من ثلثي الأراضي في مدينة القدس، وتقييد حركة البناء الفلسطيني والتوسع في هدم المنازل، حيث ضاعفت إسرائيل بعد اتفاق أوسلو هدم المنازل بنسبة 500%، كما تضاعفت حالات سحب حقوق الإقامة من المقدسيين، حيث قامت إسرائيل بعد اتفاق أوسلو بسحب حقوق الإقامة من أكثر من عشرة آلاف مواطن مقدسي.

كل هذه الإجراءات مكنت إسرائيل من ممارسة سياسة التهجير الصامت من أجل إحداث خلل إستراتيجي في الميزان الديمغرافي الفلسطيني لصالح الوجود الاستيطاني. 

ثالثا: الإحلال
على أثر إغلاق المؤسسات الخدماتية الفلسطينية في مدينة القدس، قامت إسرائيل بانتهاج سياسة إحلال مؤسسات إسرائيلية مكان المؤسسات الفلسطينية، وأسرلة الخدمات التي تقدم للمقدسيين من خلال فرض التأمين الصحي الإجباري على المقدسيين، وربط الخدمات الصحية بالمؤسسات الإسرائيلية، كذلك قامت بإنشاء العديد من المؤسسات الاجتماعية والشبابية والرياضية المرتبطة بالبلدية الإسرائيلية، كما قامت بمحاولة أسرلة الخدمات التعليمية من خلال إيجاد مرافق تعليمية لتدريس المنهاج الإسرائيلي ومحاولة فرض هذا المنهاج على المدارس الخاصة الفلسطينية في مدينة القدس، وهي المحاولة التي يخوض المقدسيون صراعا مريرا معها الآن. 

رابعا: الاستيطان
 منذ توقيع اتفاق أوسلو لم تنفك إسرائيل عن تصعيد وتيرة الاستيطان في مدينة القدس كما الضفة الغربية، فقد تضاعف عدد المستوطنين في القدس الشرقية خلال العقدين الماضيين إلى ثلاثة أضعاف، فقد كان عددهم قبل الاتفاق نحو مئة ألف مستوطن، ليصل الآن إلى نحو ثلاثمئة ألف مستوطن في القدس الشرقية، خاصة بعد أن قامت إسرائيل بتوسيع حدود المدينة إلى أكثر من مئة كيلومتر مربع.

لعل المراقب لتطورات الأوضاع في المسجد الأقصى لديه الكثير من الأدلة للاعتقاد بأن الاستهداف الحقيقي للمسجد الأقصى جاء بعد اتفاق أوسلو

ويواجه المقدسيون زحفا ديموغرافيا متماديا للمستوطنين على أراضيهم، خاصة في قلب الأحياء الفلسطينية في المدينة، بينما ترتفع وتيرة سياسة التطهير العرقي وسياسة التهجير الصامت بحقهم؛ لدرجة أن نحو 140 ألف مقدسي أصبحوا يقطنون الآن خارج جدار الفصل العنصري بفعل عدم توفر وحدات سكنية داخل الجدار. 

المقدسات الإسلامية
ولا يعادل ما تتعرض له القدس من إجراءات التهويد إلا ما تتعرض له المقدسات الاسلامية والمسيحية، خاصة المسجد الأقصى المبارك، من اعتداءات ومحاولات لفرض السيادة الإسرائيلية على الحرم القدسي الشريف، التي كانت آخرها محاولات وضع البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد، وهي المحاولة التي تصدى لها المقدسيون وأفشلوها.

ولعل المراقب لتطورات الأوضاع في المسجد الأقصى لديه الكثير من الأدلة للاعتقاد بأن الاستهداف الحقيقي للمسجد الأقصى جاء بعد اتفاق أوسلو.

فقد كان المسجد قبل الاتفاق موضوعا هامشيا في الفكر الصهيوني، وكانت فتاوى كبار الحاخامات في إسرائيل تحرم دخوله، أما بعد اتفاق أوسلو، فحدث تغيير إستراتيجي في مواقف اليمين الإسرائيلي.

كان دخول الإسرائيليين إلى الأقصى ضمن برنامج الزيارات السياحية أسوة بالأجانب ضمن الضوابط والبرامج والتوقيت الذي تضعه إدارة الأوقاف الإسلامية، بالإضافة إلى دفع رسوم الدخول لإدارة الأوقاف وفرض اللباس المحتشم، وكانت هذه العملية تتم دون تدخل الشرطة الإسرائيلية.

وبعد التوقيع على اتفاقية أوسلو بنحو عامين، أي في العام 1996، قام بنيامين نتنياهو بافتتاح النفق أسفل الحرم القدسي، وما نجم عنه من هبة النفق التي استشهد على أثرها عشرات الفلسطينيين وقتل عشرات الإسرائيليين.

ثم جاء اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى في العام 2000، وما نجم عنه من مجزرة راح ضحيتها عشرات الفلسطينيين، وما أعقب ذلك من اندلاع الانتفاضة الثانية.

الصمود الذي أظهره المقدسيون في مواجهة الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة في المسجد الأقصى يظل هو الأمل الوحيد والرهان غير الخاسر على أن اتفاق أوسلو لن يعلو على صوت عروبة القدس

وبعد العام 2000، بدأت الهجمة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، حيث صادرت الشرطة الإسرائيلية صلاحية الأوقاف الإسلامية في التحكم في دخول السياحة الأجنبية، وسمحت بالتالي للمجموعات المتطرفة بدخول المسجد الأقصى، وتوسعت الاقتحامات منذ العام 2000 وحتى الآن بوتيرة متسارعة، ولم تعد محصورة على جماعات متطرفة، وإنما أصبح المقتحمون يمثلون كافة شرائح المجتمع الإسرائيلي وأجهزته الأمنية والسياسية والتشريعية.

وزاد عدد المقتحمين من مئة في الشهر قبل اتفاق أوسلو إلى ثلاثة آلاف شهرياً في العام 2017.

هذا بالإضافة إلى قيام الشرطة الإسرائيلية بالتحكم في دخول المسلمين إلى المسجد وقيامها بالاعتداء على الحراس والمواطنين داخل المسجد الأقصى واتخاذ قرارات إبعاد بحقهم ومحاولة التدخل الساخر في شؤون الأوقاف حتى وصل الأمر في أغسطس/آب الماضي إلى تقديم دعوى قضائية ضد بعض مؤسسات الأوقاف بأنها منظمات إرهابية.

وفي موازاة كل هذه الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد مدينة القدس بعد اتفاق أوسلو، والتي أدت إلى حد كبير إلى تراجع مكانة القدس وتفاقم معاناة سكانها؛ لم تقم السلطة الفلسطينية بأي جهد ذي مغزى في تعزيز صمود المقدسيين والتخفيف من معاناتهم، وإنما تركتهم فريسة التهويد والاستيطان والتطهير العرقي.

غير أن الصمود الذي أظهره المقدسيون في مواجهة الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة في المسجد الأقصى يظل هو الأمل الوحيد والرهان غير الخاسر على أن اتفاق أوسلو لن يعلو على صوت عروبة القدس.

المصدر : الجزيرة