أسواق القدس.. نصف قرن من الاستنزاف

سوق الحصر-القدس
واقع مرير يعيشه تجار أسواق البلدة القديمة في القدس نتيجة إجراءات الاحتلال (الجزيرة)
أسيل جندي-القدس

عندما يختلط المكان برحيق الذكريات التي لا تبارح مكانها، يُخلق عالم من الدهشة يتخلله خيط قوي من الحسرة على ما آلت إليه الحال اليوم.. هكذا يمكن وصف حال التاجر المقدسي الثمانيني إبراهيم وزوز الذي تتشبث في ذاكرته مشاهد أسواق القدس المنتعشة قبل احتلال المدينة عام 1967، لكنه سرعان ما يعود إلى الواقع المرير حيث يفتح باب حانوته ويغلقه في كثير من الأحيان دون أن يبيع قطعة واحدة من بضاعته.

بدأ وزوز رحلته في التجارة في سوق البازار قرب باب الخليل كبائع للخضراوات والفواكه، وكان حانوته وجهة سكان المدينة لشراء الخضراوات النادرة التي لا تتوفر لدى غيره من التجار. ورغم قلة عدد سكان القدس في ستينيات القرن الماضي وضيق حالهم، فإنه يصف تلك الفترة بأنها الأجمل في تاريخ المدينة المقدسة، قائلا "كان أهالي القدس فقراء وبسطاء لا يملكون شيئا سوى المنازل التي يسكنون بها، لكنهم كانوا مرتاحي البال".

لم تدم الطمأنينة والراحة كثيرا بعدما احتل الجزء الشرقي من القدس عام 1967 وتدحرجت الأحداث الأمنية في المدينة، فنزح كثير من المقدسيين إلى مدينة أريحا ومنهم من غادر إلى الأردن دون عودة، مما ألقى بظلاله على الاقتصاد المقدسي بشكل مباشر.

وزوز: أسواق انتكست مع نصب الحواجز العسكرية الإسرائيلية على الطرق المؤدية إلى القدس (الجزيرة)
وزوز: أسواق انتكست مع نصب الحواجز العسكرية الإسرائيلية على الطرق المؤدية إلى القدس (الجزيرة)

ذكريات لا تمحى
لكن التجار -حسب وزوز- تمكنوا من الثبات والمضي قدما في حرفهم وتجاراتهم على اختلاف أنواعها. وفي حديثه للجزيرة نت قال إن سوق الدباغة الذي اختص بدباغة الجلود كان مكتظا على مدار الساعة، بالإضافة إلى سوق القطانين الذي استمر عدد من تجاره بعد الحرب في جلب القطن المصري والعمل في إنتاج الوسائد والفراش القطني، قبل أن يُغلق الاحتلال باب الاستيراد أمام التجار.

غادر التاجر المسن حانوته في سوق البازار وفتح آخر في طريق الواد المؤدي إلى المسجد الأقصى واختص ببيع التحف السياحية والفضيات، لكن مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 وبدء نصب الحواجز العسكرية الإسرائيلية على الطرق المؤدية إلى لقدس، انتكست الأسواق تدريجيا وبدأت الحرف التي اشتهرت بها المدينة تندثر شيئا فشيئا حتى أُغلقت كافة مصانع البلدة القديمة التي اشتهرت بصناعة الأحذية والحقائب الجلدية ذات الجودة العالية.

وبعدما جال لسنوات في كل من الهند وإيطاليا وبريطانيا وتركيا لجلب جديد البضائع لزبائنه، أصبح التاجر إبراهيم وزوز رفيق مقعده الذي يضعه أمام حانوته، يراقب حركة المارة ويخشى أن يغلق بابه يوما كما أغلقت العديد من الأبواب في كل من سوق اللحامين والخواجات.

الحموري كان يستورد البضائع من أنحاء العالم لكنه بات مقيدا بإجراءات الاحتلال (الجزيرة)
الحموري كان يستورد البضائع من أنحاء العالم لكنه بات مقيدا بإجراءات الاحتلال (الجزيرة)

وتأبى ذكريات الأسواق القوية والمنتعشة مغادرة ذاكرة التاجر عدلي الحموري أيضا، الذي اعتاد المقدسيون على إلقاء التحية عليه كلما مروا قرب باب الساهرة حيث يقع محله المختص ببيع ملابس الأطفال والأحذية والجلود.

استورد الحموري البضائع -كغيره من التجار- من فرنسا وإسبانيا، لكنه لجأ أيضا إلى بيع أحذية محلية الصنع كان يجلبها من مصانع البلدة القديمة بالقدس ومن مدينتي الخليل ونابلس.

وفي حديثه عن أسواق المدينة قال إنها تتأرجح باستمرار حسب الوضع السياسي، لكنه يتذكر انتكاسة الأسواق القاسية خلال الانتفاضة الأولى عندما حُددت ساعات العمل بثلاثٍ يوميا، بسبب الأوضاع الأمنية المتردية المتمثلة في منع التجول واللجوء إلى الإضراب التجاري باستمرار.

وعندما سنحت الفرصة أمام التجار للنهوض مجددا باقتصاد مدينتهم، اندلعت بعد سنوات قليلة الانتفاضة الثانية وبُني الجدار العازل الذي شكّل صفعة قوية للتجار، حسب الحموري.

أبو غربية: الضربة الأقسى التي تلقاها المنتج المحلي هي اجتياح البضائع الصينية للأسواق (الجزيرة)
أبو غربية: الضربة الأقسى التي تلقاها المنتج المحلي هي اجتياح البضائع الصينية للأسواق (الجزيرة)

حرمان من الوكالات
ولم تقتصر أسواق القدس على الحرف والبضائع التقليدية قديما، بل اشتهرت بوجود وكلاء للسيارات كان أحدهم والد التاجر عدلي الحموري وكيل سيارات "بليموث" الأميركية. وبعيد احتلال المدينة رفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي استيراد الوكلاء الفلسطينيين للسيارات بشكل مباشر وأرغمتهم على أن يكونوا وكيلا ثانيا بعدها، الأمر الذي رفضه التجار وأدى إلى إغلاق وكالات السيارات في القدس
.

ومنذ سبعين عاما يعمل المقدسي أحمد أبو غربية تاجرا في المدينة، وانتقل في الثمانينيات من سوق حارة النصارى إلى شارع صلاح الدين الأيوبي. وعن الأسواق قديما قال "كان الإسرائيليون يتوجهون إلى أسواقنا لشراء كل شيء، فلم يكن لديهم أسواق، والآن انقلبت الآية.. كانت الضربة الأقسى التي تلقيناها هي فتح الأسواق الصينية علينا مما أد إلى ضعف إنتاج ما تبقى لدينا من حرف قبل أن تندثر نهائيا".

المصدر : الجزيرة