كيف أعاد الاحتلال إنتاج أدواته للتنكيل بالأسرى الفلسطينيين؟

فلسطين- رام الله- عزيزة نوفل - بشير خيري بعد الإفراج عنه من الاعتقال الأول- مصدر الصور أرشيف العائلة
بشير خيري بعد الإفراج عنه من الاعتقال الأول (الجزيرة)

رام الله- في عام 1967 كان "بشير خيري" يخطو خطواته الأولى في مهنة المحاماة، ولكن النكسة وما تبعها من احتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين لم تمهله، وهو الذي أعلن منذ اليوم الأول مقاطعته العمل في المحاكم الإسرائيلية التي ترفع العلم الإسرائيلي، فكانت إحدى التهم التي وجهت إليه عند اعتقاله في العام التالي.

حكم عليه في حينه بالسجن 15 عاما، رفض خلالها الاعتراف أو التعامل مع المحاكم الإسرائيلية، وهو الموقف الذي لا زال يتبناه حتى الآن بعد 54 عاما، وهو المعتقل إداريا في سجون الاحتلال؛ "قاطع والدي جميع المحاكم التي عقدت له مؤخرا، هو يؤمن أنها محاكم صورية ولا جدوى منها"، وفق ما قالته ابنته حنين للجزيرة نت.

اعتقال خيري (80 عاما) الأخير كان في أكتوبر/تشرين الأول 2021، ورغم عدم وجود تهمة محددة ضده فإن مخابرات الاحتلال أصرت على احتجازه رغم قرارات الإفراج التي حصل عليها محاميه، وتحول للاعتقال الإداري لمدة 6 أشهر.

بالتزامن، حُددت له جلسة محاكمة على تهمة ستعرض عليه نهاية مايو/أيار القادم، وهو ما يشير إلى نية تجديد قرار الاعتقال الإداري له الذي ينتهي هذا الشهر. وتقول ابنته إن اعتقاله إداريا هو "كسب وقت من مخابرات الاحتلال حتى يتم تجهيز تهمة له".

خيري خلال اعتقالاته المتتالية منذ عام 1967 وحتى الآن؛ اعتقل أعوام: 1968، و1988، و2003، و2011، و2021، وواكب جميع مراحل تطور الحركة الفلسطينية الأسيرة، وتنقل بين جميع السجون الإسرائيلية القديم منها وما تم استحداثه في ما بعد.

تقول ابنته "تنقل أبي في كل السجون، ولكن احتجازه في سجن الرملة كان له أثر في قلبه، لأنها مدينته التي هُجّر منها عام 1948، وكان يقول إنه يشعر بأنه في بيته".

فلسطين- رام الله- عزيزة نوفل - بشير خيري بعد الإفراج عنه من الاعتقال الأول- مصدر الصور أرشيف العائلة
بشير خيري بعد الإفراج عنه من الاعتقال الأول (الجزيرة)

محطات مفصلية 

وإن كانت فترة اعتقال خيري الأولى هي بداية تشكل الحركة الأسيرة المنظمة، فإن سياسة الاعتقالات تعود لسنوات ما قبل النكبة 1948، إلى فترة الانتداب البريطاني، وكانت عبارة عن ردّ على الهبات والاضطرابات، كما هي الحال عام 1920 وخلال ثورة 1936، إذ كانت الاعتقالات بالجملة، وتميز التعامل مع الأسرى بالعنف الشديد وسياسة الإعدامات.

ومع احتلال إسرائيل فلسطين عام 1948، مارست اعتقالات جماعية ارتبطت بعمليات التهجير الجماعية لسكان فلسطين التاريخية، واستهدفت نشطاء الحركة الوطنية الفلسطينية والثوار وكل من كان قادرًا على حمل السلاح، كما رافقتها إعدامات ميدانية، ومساومة على الخروج من البلاد.

عمليات الاعتقال في حينه كانت غير منظمة، يحتجز الأسرى في ظروف صعبة في السجون التي ورثتها إسرائيل من الانتداب البريطاني، وعمل الأسرى فيها بالسخرة وتعرضوا للتعذيب والقتل والاغتصاب خلال التحقيق.

وفي 1967، بدت عمليات الاعتقال أكثر تنظيما من قبل إسرائيل، وفي المقابل كانت الحركة الأسيرة داخل السجون أكثر تنظيما مستمدة قوتها من الشارع الفلسطيني مع نشأة منظمة التحرير الفلسطينية وعمليات المقاومة.

في الفترة الأولى اتخذت الاعتقالات صفة الجماعية كما في سنة النكبة، وكانت قوات الاحتلال تعتقل كل من تراه في شوارع الضفة الغربية والقطاع.

ورافق هذه الاعتقالات ارتفاع في مستوى التعذيب وحرمان الأسرى من كل الحقوق. خيري كان من الذين تعرضوا لتعذيب قاس حينها، و"لا تزال آثار أعقاب السجائر على جسده حتى الآن"، وفق ما ترويه ابنته حنين.

وردا على هذه السياسات، برزت الإضرابات الجماعية أداة للرد على هذه السياسات من قبل الأسرى، وسجلت 8 إضرابات خلال الأعوام بين 1967 و1977، أبرزها إضراب عام 1976-1977، الذي تحقق خلاله للأسرى حقوقهم في العلاج، وزيادة مدة الخروج للساحات، وتوفير فرشة إسفنج للنوم، وتحسين نوعية الطعام، وفتح "كنتين" (مقصف)، والحصول على الكتب، وزيادة فترة الراديو، وبعض الألعاب الرياضية.

وخلال هذه الفترة أيضا، جرت عمليات تبادل أسرى؛ أشهرها عملية الجليل عام 1985 التي نفذتها الجبهة الشعبية (القيادة العامة) وأطلق فيها سراح (1155) أسيرًا.

خلال هذه الصفقة كان من المقرر الإفراج عن بشير خيري، إلا أنه رفض ذلك، فلم يكن قد تبقى على فترة حكمه الكثير، وطالب بإدراج اسم أسير من ذوي الأحكام العالية مكانه.

فلسطين- رام الله- عزيزة نوفل - صورة حديثه للأسير بشير خيري - مصدر الصور أرشيف العائلة
صورة حديثه للأسير بشير خيري (الجزيرة)

حماس والجهاد.. تحول جديد

تحرر معظم الأسرى في هذه الصفقات، ولكن بعد عامين ومع اندلاع انتفاضة الحجارة 1987 عادت الاعتقالات من جديد، وشملت الاعتقالات لأول مرة أسرى من التيارات الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي)، وهو ما شكّل تحولا جديدا في تاريخ الحركة الأسيرة.

ورغم أن الحركة الأسيرة في حينها كانت أكثر قوة وتنظيما، فإن الاحتلال كان يحاول التضييق على الأسرى قدر الإمكان، فكانت سلسلة من الإضرابات المفتوحة عن الطعام، أشهرها عام 1992، حيث كان الإضراب الأشهر في تاريخ الحركة الأسيرة التي استطاعت خلاله تحقيق كل مطالبها.

يقول المحرر فخري البرغوثي (قضى 34 عاما متواصلة في السجن وخاض هذه الإضرابات) إن عوامل كثيرة كانت سببا في نجاح الإضراب؛ منها أن كل الأسرى في كل السجون شاركوا فيه، كما أن الدعم الشعبي خارج السجن كان كبيرا".

وتابع للجزيرة نت "حققت الحركة الأسيرة جميع مطالبهم الحياتية في السجون، حيث كانت إدارة السجون تحرم الأسرى من أبسط مقومات الحياة".

ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 عادت سياسة الاعتقالات الجماعية، خاصة خلال الاجتياحات التي شملت مدن الضفة الغربية بالكامل.

أرقام ومعطيات

وحسب نادي الأسير الفلسطيني، فإن إسرائيل تحتجز الآن 4450 أسيرا فلسطينيا، بينهم 32 أسيرة و160 طفلا، و530 معتقلًا إداريا.

وقال النادي إن إسرائيل اعتقلت منذ بداية العام الحالي 1500 فلسطيني، معظمهم خلال مارس/آذار ومع بداية شهر رمضان.

ومن بين الأسرى 600 يوجدون في حالة مرضية، بينهم 200 في حالة مرضية مزمنة، و20 أسيرًا مصابون بالسرطان وأورام بدرجات متفاوتة، أخطرها حالة الأسير ناصر أبو حميد.

وتقترب أعداد الأسرى منذ عام 1967 وحتى الآن من مليون حالة اعتقال، سقط من بينها 227 شهيدا، إضافة إلى المئات من الأسرى المحررين الذين استشهدوا نتيجة أمراض ورثوها من السجن.

ويقضي 549 أسيرا حكما بالسجن المؤبد مدى الحياة، أعلاهم حكما الأسير عبد الله البرغوثي، المحكوم بالمؤبد 67 مرة.

وبلغ عدد الأسرى القدامى المعتقلين قبل توقيع اتفاقية أوسلو 25 أسيرا، أقدمهم الأسيران كريم يونس وماهر يونس المعتقلان منذ يناير/كانون الثاني 1983، والأسير نائل البرغوثي الذي يقضي أطول فترة اعتقال في تاريخ الحركة الأسيرة بعد دخوله عامه 42 في السجون.

السجون في 2022

وبالعودة إلى أوضاع الأسرى حاليا، فإن السجون تعيش أوضاعا صعبة في ظل محاولة إسرائيل سحب كل إنجازات الأسرى التي استطاعوا فرضها من خلال الإضرابات التي خاضتها الحركة الأسيرة طوال هذه السنوات، من تضييق عليهم في الأقسام، وتقليص فترات الخروج للساحات (الفورة)، والعزل لفترات طويلة، وتقليص مواد المقصف، في ظل رداءة الوجبات التي تقدم لهم، وغيرها.

ويقول الناطق باسم هيئة شؤون الأسرى والمحررين حسن عبد ربه عن ذلك إن "أوضاع الأسرى في هذه المرحلة تزداد سوءا؛ فالاحتلال يحاول سلب الأسرى كل حقوقهم".

وحسب ما قاله عبد ربه للجزيرة نت، فإن إسرائيل لديها قرار واضح بعدم التعامل مع الأسرى على أنهم أسرى حرية، وتسعى لتغير المكانة القانونية لهم من خلال التعامل على أنهم إرهابيون ولا تنطبق عليهم القيم الأخلاقية والقانونية، ومنها الاتفاقيات الدولية.

والتضييق يشمل أيضا عائلات الأسرى، الذين يلاحَقون بالتهديد وهدم المنازل والغرامات المالية واستهداف رواتب الأسرى.

وهذا التعامل القاسي للاحتلال مع الأسرى ليس جديدا، بل هو إعادة إنتاج سياسات الاحتلال القديمة في التعامل مع الأسرى منذ عام 1948 وحتى الآن، كما تقول أماني سراحنة من نادي الأسير الفلسطيني التي خصصت رسالة الماجستير للحديث عن الحركة الأسيرة ونضالها.

وحسب سراحنة، فإن إسرائيل تستخدم سياسة العنف نفسها ضد الأسرى، القائمة على العنف الشديد الأقرب إلى سياسة الاستعمار الإحلالي.

وخلال حديثها للجزيرة نت، قالت سراحنة إن مجمل السياسات المتعلقة ببنية العنف الذي يمارسه الاحتلال في السجون ثابتة، ويتطور ليصبح عنفا غير مرئي، فلا نشهد تعذيبا مباشرا أو إطلاق النار على الأسرى كما كان في 1948، وإنما استنزاف للأسير نفسيا".

على سبيل المثال، كانت عملية التحكم في الأسرى ومراقبتهم تتطلب مواجهة مع الأسرى من قبل السجان، ولكن الآن يتم التحكم بالأسرى ومراقبتهم من خلال غرف مراقبة إلكترونية، مما يعطي السجان تفوقا في السيطرة على السجون والأسرى.

المصدر : الجزيرة