فن الحلقة بالمغرب.. تراث شفوي مهدد بالأفول

الجزيرة نت-وجدة

بعد أداء صلاة العصر مباشرة، يجد علال المالحي -أحد رواد فن الحلقة بساحة باب سيدي عبد الوهاب بمدينة وجدة (شرقي المغرب)- العشرات من جمهوره ينتظرون قدومه وسط الساحة.

مشهد يشبه كثيرا مشهد الجمهور الذي ينتظر عرضا سينمائيا لأول مرة في إحدى قاعات السينما، فالجميع يأخذ مكانه وينتظر بشوق ما ستجود به قريحة علال اليوم.

فعلى مدى أربعين سنة قضاها هذا الفنان في هذه الساحة، يحاول ألا يكرر نفسه كل يوم، وهو ما يجعل المتحلقين حوله يدركون أن حكايات ذلك اليوم لن تشبه حكايات سابقاتها ولا الحكايات التي سيرويها في الأيام المقبلة.

بأسلوبه المرح، ينطلق علال في سرد قصة حقيقية كان بطلها، عندما سافر ذات يوم قبل ثلاثين سنة من مدينة وجدة إلى مدينة تاورريت (نحو 75 ميلا عن مدينة وجدة) ولم يجد وسيلة نقل تعيده لمدينته الأصلية.

‪علال المالحي أحد رواد فن الحلقة‬ علال المالحي أحد رواد فن الحلقة بساحة باب سيدي عبد الوهاب بوجدة (الجزيرة)
‪علال المالحي أحد رواد فن الحلقة‬ علال المالحي أحد رواد فن الحلقة بساحة باب سيدي عبد الوهاب بوجدة (الجزيرة)

لم يجد أمام ندرة وسائل النقل في مغرب السبعينيات سوى أن يتخفى في زي نسائي يسمى الحايك، فانطلت الخدعة على أحد السائقين، وتمكن علال من العودة لمدينته منتشيا بذلك، وما كان ينتهي من حكايته حتى انطلقت قهقهات الجمهور في الساحة إعجابا وتقديرا لدهاء علال.

لكن علال مشغول ومهموم اليوم بسؤال يؤرقه: هل يستمر فن الحلقة (سرد الحكايات الشعبية في الفضاء العام)؟ وهل تستمر مظاهره في السنوات المقبلة؟

السؤال نفسه يطرحه زملاء علال في مدينة وجدة ومدن أخرى كمراكش ومكناس وأسفي، وغيرها من المدن المغربية، التي لعب فيها فن الحلقة دورا كبيرا في إغناء الذاكرة الشعبية بالأمثلة والحكايات والقصائد الغنائية.

أصل الحكاية
تشير بعض الكتابات التاريخية إلى أن فن الحلقة في المغرب نشأ في القرن 19 الميلادي بمدينة مراكش، قبل أن ينتشر في باقي المدن، خاصة في أسواقها الأسبوعية التي كان يحج إليها الناس من مختلف المناطق المحيطة بالمدينة.

‪فن الحلقة في المغرب نشأ في القرن 19 الميلادي بمدينة مراكش قبل أن ينتشر في باقي المدن‬ (الجزيرة)
‪فن الحلقة في المغرب نشأ في القرن 19 الميلادي بمدينة مراكش قبل أن ينتشر في باقي المدن‬ (الجزيرة)

فن الحلقة فن جامع؛ ففي الحلقة يمكن أن تجد الحكواتي، الذي يسرد على مسامع الناس حكايات يرتبط جزء كبير منها بالأساطير القديمة، وهناك من يجد فيها أيضا قصائد غنائية وأعمالا مسرحية وعروضا لمروضي بعض الحيوانات والزواحف، كما هو شأن مروضي الثعابين بمراكش.

الحلقة كانت أيضا بمثابة مركز إخباري، يتداول فيها الناس أخبارهم وجميع المستجدات، وعبر التواتر حافظ الفنانون على حكايات الأجداد، وحكايات شعبية تناقلها الناس في ما بينهم.

وعاش هذا الفن فترات من المد والجزر في بعض المدن المغربية، وقبل عقد من الزمن اختفى نهائيا من ساحة باب سيدي عبد الوهاب بوجدة، وكاد الفنانون أن يصبحوا -في غمرة تنامي موجة الأشكال التعبيرية الفنية الجديدة- نسيا منسيا، لو لا تدخل المسؤولين أمام إلحاح وشكاوى الفنانين، حيث قررت الدولة إعادة تهيئة الساحة وتخصيصها لفن الحلقة.

لا خلف
عندما قرر أعراب الضاري -وهو فنان يحترف فن الحلقة بباب سيدي عبد الوهاب- مغادرة مدينته الصويرة (جنوب غرب البلاد) قبل ثلاثين عاما، والاستقرار بمدينة وجدة، كان قلبه ينبض أملا في مستقبل زاهر، يضمنه بما يمارسه من فن كان حينها في أوج الإقبال عليه، لكن شاءت رياح هذا الفن أن تأتي بما لا يشتهيه.

الراكب: صقل موهبة حكواتي تحتاج سنوات للتمكن من فن الحلقة(الجزيرة)
الراكب: صقل موهبة حكواتي تحتاج سنوات للتمكن من فن الحلقة(الجزيرة)

للضاوي قردان، يطلق على أحدهما اسم "خلود"، وهي قردة، أكثر نباهة واستجابة لطلبات مروضها، فكلما زادت حركاتها البهلوانية إمتاعا للجمهور المتحلق حوله في شكل دائري، كان مدخوله اليوم أكبر، لكن رغم ذلك فهو يشتكي من تراجع الدخل.

ويقول الضاوي للجزيرة نت إن مصدر عيشه الوحيد هو فن الحلقة؛ يعيل به ابنيه، ويؤجر منزلا بـ 1400 درهم (نحو 150 دولارا)، ويقتني حاجاته اليومية بما يجود به الناس عليه.

وحتى وإن كان يفكر في توريث حرفته لابنه، فان ابنه لا يرغب في اقتفاء أثره، لأنه ينظر للواقع الذي يعيشه والده بحسرة كبيرة، وبالتالي هذه الطريق أصبحت غير سالكة بالنسبة إليه، ولا يمكن أن تستنسخ تجربة الحياة القاسية مرتين، والأفضل له أن يتابع دراسته ويحصل على وظيفة في مجال آخر.

ويجمع الفنانون الشعبيون رواد الحلقة أن الدولة لا تهتم كثيرا بفنهم، وهذا سبب يضاعف مخاطر الزوال بالنسبة لهم؛ فالحلايقي أو الحكواتي يبقى في نظر المجتمع شخصا حبيس الدائرة التي يشكلها الناس عليه في ميدان الحلقة، وتعوزه الإمكانيات ليصبح ما ينتجه ويقدمه من فن محط اهتمام شريحة أوسع من المتابعين.

الحلايقي أعراب الضاوي يقدم عرضا بقرديه أمام جمهوره بساحة باب سيدي عبد الوهاب بمدينة وجدة (الجزيرة)
الحلايقي أعراب الضاوي يقدم عرضا بقرديه أمام جمهوره بساحة باب سيدي عبد الوهاب بمدينة وجدة (الجزيرة)

ورغم أن الدعم المباشر من الدولة، فإن علال المالحي يرى في حديث للجزيرة نت أن وجود مدرسة تعنى بتعليم الفنون الشعبية للناشئة كفيل بضمان الاستمرارية، مبديا استعداده -مع من تبقى من شيوخ الحلقة- للانخراط في تعليم المتعلمين الجدد في حال توفر فضاء خاص بذلك.

شروط الازدهار
رغم دعم وزارة الثقافة إصدارات حول الفنون الشعبية، وبعض المهرجانات التي تعنى بالمحافظة على التراث الشفهي، يبقى ذلك غير كاف، حسب رأي ميمون الراكب الباحث الأكاديمي في الفنون الشعبية المغربية.

ويقول للجزيرة نت إن استمرارية فن الحلقة يتوقف على استمرار الشروط نفسها التي أدت إلى ازدهار هذا الفن. ويضيف أن الحلقة كشكل من أشكال التعبير، كانت دائما تجنح إلى الخوض في المسكوت عنه داخل المجتمع، إلى جانب وظيفة الإخبار، مشيرا إلى أن وجود وسائل أخرى للترفيه والأخبار حاليا تهدد كيان هذا الفن.

ويؤكد الراكب أن صقل موهبة حكواتي ليس بالأمر الهين، لأن الزمن الذي نشأ فيه الرواد كان زمن التلقي والإلقاء، وهو ما يعني أن المسألة تحتاج لسنوات من الحفظ والبحث للتمكن من فن الحلقة، وهذا وحده أمر يلزمه دعم خاص من جهة الدولة، ومن جهة الفنانين الذين لا يملكون في الوقت الراهن سوى تذكر الملامح التي سطروها في الساحات العامة.

المصدر : الجزيرة