ذكرى النكبة تنكأ جرح الفقد في قلب "لطيفة"

عوض الرجوب-الخليل

لم تكن الحاجة لطيفة أحمد سلامة أبو مليحة (أم عمرو) قد أكملت عامها الثالث، عندما باغتت رصاصات العصابات الصهيونية والدها فقضى نحبه في بلدة الدوايمة المهجرة عام 1948، لتعيش بعد ذلك يتيمة في كنف عمها مع شقيقاتها الثلاث وشقيقها الوحيد علي ذي العامين.

غادرت عائلة أبو مليحة الدوايمة إلى بلدة دورا جنوب الخليل، لكن بطش الاحتلال لاحق الفلسطينيين إلى ما تبقى من فلسطين حيث كان علي حينها في مقتبل شبابه، فقرر حمل السلاح والالتحاق بركب الثورة وبدأت مطاردته عام 1969.

وبينما تأكد استشهاد الوالد ودفنه في بلدة الدوايمة، لا يزال مصير علي يكتنفه الغموض منذ تسلم رسالة من قيادته في مايو/أيار 1971، ولا يزال الجرح غائرا يؤرق ذويه، وخاصة شقيقته لطيفة التي دهمتها الأمراض دون أن يشفى صدرها بأي خبر عن شقيقها شهيدا كان أم أسيرا.

لطيفة أبو مليحة شاخت دون أن تصل إلى طرف خيط عن شقيقها علي (الجزيرة نت)
لطيفة أبو مليحة شاخت دون أن تصل إلى طرف خيط عن شقيقها علي (الجزيرة نت)

بداية الحكاية
بدأت الحكاية كما ترويها لطيفة للجزيرة نت، عندما تسلم علي -وكان مطلوبا لدى قوات الاحتلال- رسالة من قيادته بواسطة شخص من البلدة، فهِم منها أنه أمر بالتوجه إلى منطقة أبو خروب، أقصى جنوب الضفة الغربية.

وفي ما يمكن وصفه بإحساس الفدائي، أبلغ علي شقيقته لطيفة بأن تستمع إلى نشرات الأخبار في الإذاعة الإسرائيلية، وإن سمعت عن اشتباك أو اعتقال أو أسر أحد فيكون هو، وهذا ما حدث.

وتضيف "استمعت إلى موجز نشرة أخبار الثانية بعد الظهر في بداية مايو/أيار 1971، فقالت الإذاعة إن قوة إسرائيلية اشتبكت مع فلسطيني وأصابته في قدميه، ففهمت منها على الفور أنه علي، ثم توجهت لإبلاغ الصليب الأحمر، وتواصلت مع قيادات منظمة التحرير الفلسطينية في محاولة لمعرفة مصيره، دون جدوى".

وتابعت أنها وكلت في حينها محاميا للبحث عنه دون فائدة، كما توجهت إلى السلطة الفلسطينية وقيادتها بعد دخولها غزة قبل أكثر من عشرين عاما، وحتى اليوم لم تصل إلى طرف خيط أو معلومة تثبت أنه شهيد أو على قيد الحياة.

تشتكي الحاجة لطيفة من الأبواب الفلسطينية الموصدة أمامها، وإهمال المؤسسات الرسمية لقضية شقيقها، مضيفة أن الجهات الرسمية تتعامل معها كحالة اجتماعية، دون أن يحصل شقيقها على أي حقوق أو حتى رتبة عسكرية أو تكريما رمزيا في السلطة.

‪‬ شقيقة علي أبو مليحة تحتفظ ببعض ملابسه لتشتمها من حين لآخر(الجزيرة نت)
‪‬ شقيقة علي أبو مليحة تحتفظ ببعض ملابسه لتشتمها من حين لآخر(الجزيرة نت)

وتحاول الشقيقة المريضة بالسرطان أن تؤنس نفسها ين الحين والآخر باشتمام رائحة ملابس شقيقها وما تبقى من مقتنياته. وتضيف أنها لا تملك معلومات مؤكدة حول مصير شقيقها، لكن لديها مؤشرات تؤكد تورط الاحتلال أو عملائه في اغتياله أو اعتقاله، أبرزها الخبر الذي أوردته الإذاعة ويتطابق مع ما أبلغها به شقيقها قبل مغادرته.

وتابعت أن جيش الاحتلال لم يداهم منزل العائلة بعد نشر خبر الاشتباك، كما أفرج بعدها عن شقيقه الأصغر محمد وكان طفلا متهما بإيصال الطعام له، فضلا عن روايات غير مؤكدة بأنه اعتقل مصابا ويوجد في سجن سري.

ويبقى شح المعلومات وغياب جهة تتبنى البحث عن مصير علي، مصدر قلق للعائلة التي تلوم حركته (حركة فتح) التي ينتمي إليها لما تعتبره تقصيرا في حقه وحق عائلته.

ويقول ابن شقيقته علي -الذي سمي باسمه وسبق أن أصيب برصاص الاحتلال- إن عمه فدائي سلك طريق الثورة وكان يسعى للشهادة، ولم يكن يحلم بمنصب أو مال، لكن المقلق أن مصيره مجهول.

وتعهد علي في حديثه للجزيرة نت من أمام المغارة التي غادرها عمه يوم فقدانه، بأن يواصل مسيرة البحث عن عمه والاستمرار في إثارتها محليا ودوليا، معربا عن أمله في أن يجد ملف المفقودين اهتماما كافيا من قبل المنظمات الحقوقية والرسمية.

أمين البايض ينفي تهمة التقصير في متابعة ملف المفقودين لدى الاحتلال (الجزيرة نت)
أمين البايض ينفي تهمة التقصير في متابعة ملف المفقودين لدى الاحتلال (الجزيرة نت)

استجواب بلا رد
وتلقت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء مؤخرا إشعارا من سلطات الاحتلال بأنها ستقدم قوائم بأسماء 119 شهيدا تحتجز جثامينهم، لكنها تؤكد أن لديها بيانات 242 رفات شهيد، إضافة إلى 65 مفقودا.

وينفي عضو الهيئة الإدارية لمركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان أمين البايض تهمة التقصير، ويقول إن ملف المفقودين تحديدا تنقصه الشواهد والشهود والأدلة اللازمة لمتابعته في محاكم الاحتلال.

ويتولى مركز القدس الجانب القانوني في ملف استرداد جثامين الشهداء، وحقق إنجازات أسفرت عن استعادة عشرات جثامين الشهداء خلال الأعوام الأخيرة.

ويضيف البايض للجزيرة نت أن المركز توجه قبل عامين باستجواب إلى المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية لطلب معلومات حول المفقود أبو مليحة من باب أن الأراضي التي فقا فيها تخضع لسيطرة الاحتلال وجيشه وأجهزته الشرطية والأمنية، لكن المركز لم يتلق أي رد.

وقال إن المؤشرات لا تكفي في الملفات القضائية، لكن المنظمات الحقوقية تعول على إيجاد ثغرة للولوج في هذا الملف من خلالها، مشيرا هنا إلى معلومات نشرت عن سجن سري، ومعربا عن أمله في مشاركة منظمات دولية ذات إمكانيات تحقيق متقدمة -وخاصة المحكمة الجنائية الدولية- في البحث عن المفقودين وإمكانية وجود سجون سرية تؤكدها عدة دلائل.

المصدر : الجزيرة