"ألوان فن الشارع" تكسر جمود جسور تونس
خميس بن بريك-تونس
تأخذ الصورة بأبعادها المستوحاة من الواقع خيال الناظر إليها بعيدا إلى زمن أصيل يعيد حلم ماض جميل، ويؤّمن آذان المارة السابحين في جمال الصورة شر منبهات السيارات.
يمسك الرسام الموقر بفرشاته بلين، ثم يغمسها قليلا في خليط من الألوان ليطلي آخر بقع رمادية حزينة كانت تفسد المكان.
هذا الفنان هو أحد عشرات المتطوعين من رسامين وطلبة فنون جميلة جاؤوا من كل فج عميق لإعادة الحياة إلى أعمدة جسر شارع الجمهورية التي اتشحت مؤخرا بحزن اللون الرمادي القاتم بعدما أقدمت وزارة التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية على طمس رسومها، مما أثار ردود فعل غاضبة.
انقشاع الحزن
ببراعة ساحر مبدع، جعل الرسام خريف الجدار ربيعا، وأعاد زهو المكان فانقشع الحزن بالألوان، لم يرتسم التعب مطلقا على وجه الرسام رغم وقوفه ساعات تلذذ دقائقها دون نسيان طغيان اللون الرمادي المائل للسكون والهوان، يقول "اللون الرمادي أعادنا إلى المربع الأول لكننا سنعيد التجربة".
وقبل أيام قليلة من انعقاد القمة العربية في قصر المؤتمرات بالعاصمة قبالة جسر شارع الجمهورية، أزالت وزارة التجهيز 113 لوحة من جملة 240 جدارية بأحجام كبيرة طلتها باللون الرمادي، غير أن هبة المجتمع المدني والفنانين التشكيليين وطلبة الفنون الجميلة أعادت وهج فن الشارع إلى الاتقاد.
يقول الرسام "إذا تركنا أعمالنا يمكن أن تضيع منا، لا بد من مواكبة إنتاجنا حتى لا نترك المجال للطرف الآخر".
ويضيف التشكيلي الذي له تجربة تزيد عن أربعين عاما، أن ما وقع يمثل فرصة لإعادة الاعتبار لفن الشارع قصد تنقية النفوس وإحياء روح جديدة لدى الناس ليشعروا بقيمة الحياة وجمالها.
عندما أخبرها أصدقاؤها بفسخ لوحاتها من قبل وزارة التجهيز تساقطت دمعات من عينيها، لكن عزيمة الفتاة المشبعة بمعاني إرادة الحياة جعلتها تتطوع مع العديد من الفنانين التشكيليين وطلبة الفنون الجميلة الذين جاؤوا بأدواتهم الخاصة لإعادة الأمل والحياة والحلم إلى جدران الجسر بالرسومات.
تقول للجزيرة نت إنه من المحزن أن تعيد إحدى مؤسسات الدولة البؤس إلى الشوارع في وقت تمر به البلاد بأبشع الظروف بعد وفاة 15 رضيعا بتعفن جرثومي بالمستشفى، واغتصاب أكثر من 20 تلميذا من قبل أستاذ، تقول "لن نتوقف عن الرسم حتى نعيد الصور والألوان للشوارع بكل مكان".
فسحة الأمل
يمثل الرسم على الجدران في الشارع، وفقها، "فسحة أمل" للمواطنين المخنوقين من ضوضاء السيارات المزعجة، تقول بصوت عذب "ذات مرة قال لي سائق سيارة أجرة إن تلك الرسومات الجميلة كانت تخفف عنه وطأة اكتظاظ السيارات واختناق المرور، فلا بد أن نعمم هذه التجربة، لا أن نوقفها".
من جانبه يقول رئيس اتحاد الفنانين التشكيلين التونسيين وسام غرس الله للجزيرة نت إن الفنانين التشكيليين وطلبة الفنون الجميلة لن يتوقفوا عن الرسم إلا بعد الانتهاء من كل الجداريات، مشيرا إلى أن إزالة بعض اللوحات من وزارة التجهيز كانت بمثابة حافز جديد للعناية بفن الشارع وجمالية المدن.
ويضيف "ستكون هناك فضاءات أخرى عديدة بعد الانتهاء من هذا الجسر من شمال البلاد إلى جنوبها لإعادة الألوان والحياة والفرحة والسعادة مكان اللون الرمادي الحزين"، موضحا أن رئاسة الحكومة ووزارة الثقافة أبدتا تعاطفهما مع احتجاجات المجتمع المدني ردا على إزالة بعض الجداريات.
وكانت وزارة التجهيز قد نشرت يوم 15 مارس/آذار الجاري بيانا بعد تصاعد الاحتجاجات ضدها زعمت فيه أن "إزالة الأعمال الفنية لم تطل إلا بعض الأعمال التي وقع تشويهها بالإعلانات وبكتابات تحمل كلاما بذيئا ومخلا بالحياء مما يعتبر شكلا من أشكال الاعتداء على الملك العمومي للطرقات".
لكن وسام غرس الله يقول للجزيرة نت إن وزارة التجهيز لا تفرق بين الكلام البذيء والأعمال الفنية التجريدية أو التشخيصية أو الجمالية أو التي توثق التاريخ، موضحا أن ما قمت به حركة أحادية شوهت الطريق المؤدية إلى مدينة الثقافة وقصر المؤتمرات ووسط العاصمة تونس.