من حب الأنتيكا إلى إنتاج محتوى رقمي بإكسسوارات وملابس قديمة.. لماذا نحنّ إلى "الزمن الجميل"؟

فؤاد بلمير المتخصص بعلم الاجتماع: لا يوجد زمن جميل محدد في التاريخ، فلكل جيل زمنه الجميل وحنينه الخاص.

لعشاق الأنتيكا لوازم وأدوات قديمة تباع على الرصيف بشوارع المغرب (الجزيرة)

الرباط- عبر حساب على إنستغرام باسم "ستايل بلدي" اختار الشاب المغربي كريم شاطر (25 عاما) أن يقدم محتوى مستلهما من موديلات القرن الماضي بأزياء موضة الستينيات والسبعينيات، وتسريحات شعر تناسبها بالإضافة إلى عناصر الديكور.

كريم يعيش عصره ويستلهم طلاته من لباس أبيه، يسافر بمتابعيه في الزمن. ويعتبر، في حديث مع الجزيرة نت، أن المحتوى الذي يقدمه يستهدف الناس الذين يحبون الأسلوب القديم، ويحيي الذكريات لديهم.

الزمن الجميل.. حنين يتطور

بالقدر الذي اهتم به الباحثون بتاريخ الحضارات القديمة وكيف أدارت الدول صراعاتها وحروبها وتوسعاتها، اهتمت الأجيال المتعاقبة بالتعرف على أسلوب حياة القدامى وشكل لباسهم وطقوس معيشهم اليومي.

وهناك من حاول حفظ الأنماط القديمة وتحصينها عبر حفظ الأشياء في المتاحف، وعبر الأعمال الفنية المختلفة من تجسيد ونحث ونقش وتصوير فوتوغرافي وسينمائي.

كما أن هناك من حاول تقمص الأدوار ومحاكاة "الزمن الجميل" حيث نجد مولعين بجمع التحف، وعاشقين لفراش الأنتيكا. وقد تطور هذا الولع ليصل مع التطور الرقمي لإنتاج محتوى بموضة القرن الماضي وتقديم الطبخ القديم والغناء القديم. فلماذا نستوحي من الماضي، ولماذا نحنّ دائما لما يسمى "زمنا جميلا" عند كل جيل؟

بعض الأشياء القديمة التي استطاعت أن تحفظ بعضا من "الزمن الجميل" عند عشاق الأنتيكا (الجزيرة)

لكل قديم قيمة

يعيد كريم تشخيص موضة القرن الماضي لتغذية الحنين لدى متتبعيه، ويقول إنه يحب ما يفعل وما يقدم، فأسلوب العيش القديم يلهمه. بعد أن استطاعت الأشياء القديمة أن تحفظ بعضا من "الزمن الجميل" عند عشاق الأنتيكا، وبنت الحكايا وكتب التاريخ زمنا جميلا في مخيال الأجيال، وغذته أفلام الأبيض والأسود لدى جيل، وأغاني أم كلثوم عند آخر. تتغير طرق التعبير ويتغير معنى الجميل لكن حب "زمن جميل" لا يتغير.

ويعتبر كريم أن كل شيء قديم له قيمة يستمدها من الندرة، ويوصي بالاحتفاظ بالأشياء الجميلة للأجيال المقبلة.

كريم يرى أن كل شيء قديم له قيمة يستمدها من الندرة ويوصي بالاحتفاظ بها للأجيال المقبلة (الجزيرة)

ومن جانبه، يرى المحلل النفسي فيصل الطهاري أن حب الإنسان لأساليب العيش القديمة والاستلهام من الماضي مرتبط بالجانب النوستالجي (الحنين) واصفا إياه بـ "المهم في حياة الأفراد".

ويوضح الطهاري، للجزيرة نت، أن حب القديم حنين للماضي بذكرياته وبالعلاقات مع الآخر (الوالدين، الأجداد، الأحبة…).

أما فؤاد بلمير المتخصص في علم الاجتماع فيعتبر أن الحنين للماضي أمر عادي لدى كل جيل في مختلف الحقب ومختلف المجتمعات، ويقول للجزيرة نت "لا يوجد زمن جميل محدد في التاريخ، لكل جيل زمنه الجميل وحنينه الخاص".

مصفاة كل جميل

لا شك أن الحنين إلى الحياة الماضية يرتبط بالأماكن والحواس، فنشعر بنوع من الشوق والراحة والانتماء للماضي. وفي تفسيره النفسي، يعتبر الطهاري أن الإنسان مهما تطور وتغيرت أحواله يبقى مرتبطا بمرحلة خاصة بطفولته وبالمسار الذي عاشه وبشكل وأسلوب من عايشه.

ومن الناحية الفكرية، يرى سلمان بونعمان، رئيس مركز معارف للدراسات والأبحاث، أن الماضي يبقى جزءا من ذاكرة الأجيال، ولذلك يتم استدعاؤه عند الأزمات الاجتماعية والسياسية والثقافية، لمواجهة كل حركة تجديد أو إبداع أحيانا، وقد يكون تعزيزا للأصالة التاريخية والحضارية لأي مجتمع وتأكيدا على الهوية والانتماء، فيكون أحد أشكال العودة إلى الذات والاعتزاز بتاريخها وفنها وحضارتها في مواجهة موجات الهيمنة والتغريب.

 

ويعود بلمير للقول إن الأمور الجوهرية المرتبطة بعمق الحياة وبنيتها، والمرتبطة بالإبداع والفن والجودة، تصمد وتبقى وتورث وتنقل من جيل لآخر، في مقابل كل ما هو تافه وسطحي لا يصمد ولا ينتقل ولا يعمر كثيرا حتى وإن ساد في فترة.

ويؤكد، في السياق ذاته، أن الزمن الجميل في كل جيل بمثابة مصفاة يرشح فيها كل جميل.

 

رفض الحاضر

من زاوية أخرى، قد لا يكون الحنين للزمن الجميل حبا فيه فقط، بل قد يكون رفضا للحاضر وغضبا منه. فلطالما سمعنا سخطا على أنماط الحياة العصرية يقابله تمجيد لجودة ما مر من أساليب، ولطالما اعتبر كل جيل أن ما عاشه في ماضيه هو الأجود والأحسن وسماه "الجيل الذهبي" مقابل ما يسود في حاضره رفقة ما ومن استجد فيه.

ويوضح المحلل النفسي الطهاري أنه، مقابل الذكريات السيئة التي يهرب منها الكثير، توجد ذكريات جميلة مرتبطة بواقع عاشه الفرد في مرحلة محددة تكون مطبوعة ببراءة الشخصية وبنية نفسية في طور النمو، يهرب إليها ويحن لها.

 

ويعود بونعمان، فيقول إن الحنين إلى الماضي عند كل جيل يتشكل انطلاقا من المخيال الجماعي الذي يرسم كل جيل عن جمال ماضيه وبؤس حاضره وتأزم أي أفق مستقبلي.

ويجد أنه من الطبيعي أن يتشكل عقل جماعي ينتمي إلى الماضي بما هو تعبير في الجوهر عن رفض الانتماء للحاضر بكل أذواقه ومستجداته وأنماطه، مقابل تشكل تفكير آخر يدعو إلى الارتماء في أحضان الماضي كمصدر نقاء ونور وصلاح.

الحنين للماضي عند كل جيل يتشكل من المخيال الجماعي عن جمال ماضيه وبؤس حاضره (الجزيرة)

ويذهب بلمير إلى أن (نبرات) الحنين إلى الماضي إذا ما أصبحت تتردد بشكل كبير وتجاوزت العادي منها فهي تعني عدم رضا على ما نعيشه حاليا، وتصبح نوعا من الهروب من الحاضر.

ويختم بالقول إن القيم تختلف ونمط الحياة والمجتمعات تخضع لتحولات كبيرة وعميقة، فهناك أشياء تستمر بأشكال جديدة وأسلوب جديد، معتبرا أن التاريخ لا يعود للوراء أبدا.

المصدر : الجزيرة