فصل السياسي عن الدعوي.. هل يناسب إخوان مصر الآن؟

المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين

ضرورة أم خيار؟
اعتبارات اللحظة
هوية الجماعة

لعل أفضل لحظة كان يمكن لجماعة الإخوان المسلمين المصرية أن تعلن فيها فصل نشاطها السياسي عن الدعوي هي لحظة ارتفاع أسهمها في الشارع المصري عقب ثورة 25 يناير وفوزها الواسع بثقة الجماهير في استحقاقات انتخابية متتالية.

وكان يفترض أن يتم ذلك عبر الإعلان عن تدشين خطين منفصلين من حيث الإدارة والوسائل؛ يختص أحدهما بالوعظ والإرشاد والتربية والتوعية الدينية والخدمة المجتمعية وأعمال البر، في حين يخوض الثاني غمار السياسة، وينافس على الحكم بلا وصاية إلا من اللوائح والقوانين التي تحكم حركة الحزب السياسي.

ضرورة أم خيار؟
وهذا الخيار في تلك اللحظة -لو تم- فربما مثل مناورة جيدة لاستيعاب المشهد المصري الملغوم حينئذ في بعديه الاجتماعي والسياسي، دون أن تطغى إخفاقات أحدهما على الآخر.

لو تم الفصل خلال فترة النجاحات الانتخابية، فربما مثل مناورة جيدة لاستيعاب المشهد المصري الملغوم حينئذ في بعديه الاجتماعي والسياسي، كما أن هذا الفصل في تلك اللحظة كان سيمثل خيارا عن قناعة؛ لأنه يتم في لحظات انتصار قلما يلتفت فيها الإنسان إلى أسباب العطب الكامنة

كما أن هذا الفصل في تلك اللحظة كان سيمثل خيارا عن قناعة؛ لأنه يتم في لحظات انتصار قلما يلتفت فيها الإنسان إلى أسباب العطب الكامنة التي تهدد مسيرته، وقلما يشعر بأن نجاحه الآني ليس مرجعه إلى الواقع القائم بكل تفاصيله، بل قد تكون بعض عناصر هذا الواقع سببا في أزمة قادمة.

فهل تمثل اللحظة الحالية -التي تعاني فيها الجماعة والثورة المصرية في عمومها أزمة خانقة- لحظة مناسبة لإعلان الإخوان المسلمين عن فصل عملها الدعوي عن السياسي؟ وهل من اللازم أصلا القيام بهذا الفصل في كل وقت؟

يذهب كثيرون إلى أن الفصل ضرورة دائمة، وأن شمول الإسلام لا يعني بالضرورة شمول الحركات التي تحمل مشروعا إسلاميا -من الناحية العملية على الأقل- بمعنى أن الإسلام الذي وسعت تشريعاته كلا من العقائدي والشعائري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أو الديني والدنيوي لا يفرض على العاملين له أن تكون مكوناتهم وتشكيلاتهم على هذا المقاس نفسه، بل تصاغ الأمور على هيئة تخصصات يتقاسم أصحابها مجالات الحياة، ويعمل كل واحد منها في جانب، فيظهر التكامل، ويدق التخصص ويتحقق معه الإتقان، وتقل مساحات الاحتكاك بين مشروعات إسلامية شمولية تتنافس كلها على خدمة الإسلام في مساحات واحدة.

ولعل سقوط النظريات الفلسفية والأيديولوجيات العالمية التي تفسر كل شيء في وقت واحد -التاريخ والواقع والاقتصاد والدين وغيرها- قد شجع على هذا التوجه. إلا أن إخفاق أغلب المشروعات السياسية التي طرحتها الحركة الإسلامية إلى الآن قد يكون هو السبب الأكبر لهذه الدعوة إلى فصل العمل الدعوي الإسلامي عن العمل السياسي، كذلك فإن الوصاية والتعويق الذي يمارسه الحركيون على السياسيين في جسم الحركة الإسلامية (إخوان الأردن نموذجا) قد دفع إلى هذه الصرخة العالية أن أنقذوا الدعوة من براثن الاختلاف التي يستغلها الخصوم شر استغلال.

ولكي نفهم المسألة فهما أعمق بالنسبة لجماعة الإخوان المصرية تحديدا نستدعي بعض التقسيمات التنظيمية التي أضافتها الجماعة إلى كيانها في مراحل متأخرة من تاريخها، وتحديدا "القسم السياسي" الذي تولى إدارة الملفات السياسية بإجراء دراسات حولها، وتنشيط العمل الإعلامي، وتشكيل لجنة خاصة بالبرلمانيين التابعين للجماعة.

وقد وضح من إنشاء هذا القسم أنه يستهدف تحقيق مزيد من الانتشار للجماعة وفكرها وزيادة رقعة أعضائها ومؤيديها في الشارع المصري، وهذا يعني أن الجماعة لا تفهم العمل السياسي إلا على أنه يصب في خدمة عملها الدعوي مباشرة؛ أي في دائرة أسلمة الشارع بالصورة التي يفهم بها الإخوان الإسلام كمشروع اجتماعي حركي.

 

إن فصل العمل السياسي عن الدعوى -أو عدمه- ينظر فيه دائما إلى جدوى الفصل وجدوى الجمع ومناسبة اللحظة والحالة أو عدم مناسبتهما، فهل اللحظة الحالية يناسبها بالنسبة لإخوان مصر هذا الفصل المشار إليه؟

وهذا كذلك يعني -بما لا يدع مجالا للشك- أن الجماعة استغرقت منذ عقود في تبني خياراتها السلمية العتيقة، بالمشاركة السياسية المحدودة، أو التي لا تسحب البساط من تحت أقدام الحزب الوطني الحاكم، بدون ملاحظة خطورة العوامل الهادمة التي يوظفها النظام وتحد من آمال الجماعة في صناعة المجتمع الفاضل الذي تأمله.

اعتبارات اللحظة
ومع هذا كله، فإن فصل العمل السياسي عن الدعوي -في رأيي- ليس ضروريا، فالفشل الذي منيت به جماعة الإخوان المسلمين في بعض مراحلها التاريخية ليس مرجعه بالضرورة إلى هذا الجمع بين العمل الدعوي والعمل السياسي في جسم واحد، ولكن في الظهور بصورة تهدد قوى السيطرة على الواقع قبل الأوان المناسب، وقد أحس حسن البنا نفسه في آخر حياته -بعد أن صار الإخوان جسما عملاقا ومخيفا لقوى الاستعمار وحلفائه- أنه استعجل المراحل، وقال رحمه الله كلمته المشهورة: "ليتني أعود بالناس إلى مرحلة المأثورات".

إن أصعب ما أفشل الجماعة -مع وجوب شكرها على تضحياتها واجتهاداتها- هو غياب قرون الاستشعار التي تقرأ المستقبل بعين اللحظة، وعجزها عن التطور حسب هذه القراءة الفاحصة، والعمل -تحت ضغط الواقع الأمني- على تقديم أصحاب الأقدمية وإن كانوا مرضى بالكساح الفكري والعلمي على ذوي الفهم والخبرة؛ لمجرد أن الأخيرين جدد ولم يفهموا الدعوة بدرجة كافية!

إن فصل العمل السياسي عن الدعوى -أو عدمه- ينظر فيه دائما إلى جدوى الفصل وجدوى الجمع ومناسبة اللحظة والحالة أو عدم مناسبتهما، فهل اللحظة الحالية يناسبها بالنسبة لإخوان مصر هذا الفصل المشار إليه؟

وفي رأيي أن من أسوأ الاختيارات التي يمكن أن تزيد صف الجماعة اهتزازا ثم اهتراء الآن أن تقوم بإجراء الفصل في المرحلة الحالية؛ وذلك لأن هذا سيعد مجرد صيغة تسكينية لأوجاع الأزمة القائمة، فإن تقدمت به مجموعة الحرس القديم فلن يكون أكثر من ترك فرع جاف من الشجرة في يد غرمائهم لن يمكنهم من فعل شيء مستقلين، وأما إن طرحه جيل الوسط وفريق الشباب فلن يكون أكثر من حيلة للتخلص من سطوة الكبار، وإن طرحه طرف منهما في نطاقه هو فقط، فلن يفسر إلا على أنه اختطاف غير مشروع للجماعة.

وفي كل حال لن نكون في موضع من يقدم حلولا حقيقية لواقع يعيش أزمة خانقة، بل من يلفق صيغة يبتلع بها الآخر، أو يسكن آلام الانشطار المخيف الذي يهدد كيان الإخوان المسلمين في مصر بعد أن أصاب أخواتها في الجزائر والأردن بطريقة موجعة.

إن اللحظة التاريخية الحالية للإخوان المسلمين هي لحظة اختبار لمدى قدرة الجماعة على التطور مع الأوضاع القائمة بحيث تسوق مشروعها الإصلاحي الذي انطلق به البنا قبل حوالي تسعين سنة؛ أعني أن العمل في الظروف الحالية بنفس أدوات الماضي لن يؤدي إلا إلى تجميد الحركة أو موتها أو انشطارها

ثم أي دعويّ إخواني نفصله عن السياسي الآن؟! فلم تعد الجماعة نفسها تقوم بأي عمل دعوي كبير يستحق فصله عن السياسي، ثم إن السياسي في وقت النضال والثورة يختلف عن السياسي في الأوقات العادية، ويحتاج إلى أدوات غير أدواته ووسائل غير وسائله.

إن اللحظة التاريخية الحالية للإخوان المسلمين هي لحظة اختبار لمدى قدرة الجماعة على التطور مع الأوضاع القائمة بحيث تسوق مشروعها الإصلاحي الذي انطلق به حسن البنا قبل حوالي تسعين سنة؛ أعني أن العمل في الظروف الحالية بنفس أدوات الماضي لن يؤدي إلا إلى تجميد الحركة أو موتها أو انشطارها إلى كيانات نووية لا تفيد شيئا.

وإذا كان بعض الكتّاب يفسر أزمة الجماعة على أنه اكتشف أن بعض أفرادها ليسوا أمناء، أو بهم عيوب أخلاقية، أو ذوو سلوكيات صادمة، فكأنه لم يستوعب طبيعة التجمعات البشرية الكبيرة التي لا تخلو من مثل هذه النماذج، ونسي أن الآلة الضخمة لا تضرها قشة تقف بين تروسها، وإنما يضرها أن تسير هذه التروس عكس الاتجاه المطلوب، أو بسرعة غير ملائمة.

هوية الجماعة
إن الجماعة باختصار في حاجة إلى أن تعيد تعريف نفسها من جديد، وتطور من أدائها بحيث يكافئ المأمول منها في هذه المرحلة الحساسة؛ خاصة أنها لم تعد ملك نفسها تتصرف كيفما يشاء قادتها.

لقد عرّفت لائحة عام 1982 -التي وقع عليها عمر التلمساني رحمه الله- الجماعة بقولها: "الإخوان المسلمون هيئة إسلامية جامعة تعمل لإقامة دين الله في الأرض وتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام الحنيف"، وأحسب أن هذا التعميم لم يعد مناسبا الآن، بل تعلن الجماعة نفسها تكوينا اجتماعيا سياسيا إسلاميا مناضلا ومناهضا للديكتاتورية، وساعيا إلى إنقاذ مصر من الانقلاب العسكري ومن الترتيبات الدولية والإقليمية الجائرة التي تحرم شعب مصر من حقوقه في إدارة بلده. وتجيش الجماعة مكوناتها وتكيف نفسها فكريا وسلوكيا مع القيام بهذه المهمة.

إنها عملية نفض قوية للجماعة، تعيد إليها شبابها، وتصوغها صياغة أكثر متانة وتحملا لتطورات الواقع ومفاجآته، وتقطع الطريق على الحلول العنترية المتسرعة، كما تقطعه على أصحاب "النضال الدستوري" الذي يريد التسليم للأمر الواقع، والعمل في نطاق المؤسسات والنظام القائم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.