مغارة بيت ليد.. "جعيتا" فلسطين

مواطنون يتجولون داخل المغارة وبالقرب منهم ترى الأعمدة الهابطة من أعلى -
مواطنون يتجولون داخل المغارة وبالقرب منهم ترى الأعمدة الهابطة من أعلى- الجزيرة

عاطف دغلس-بيت ليد

لا يضير الزائر لمغارة بيت ليد -أو "جعيتا فلسطين" كما يسميها البعض، أو "هُرُبَّة باطن الحمام" كما يُطلق عليها آخرون، لا سيما أهالي القرية- أن يمشي سيرا على الأقدام لبرهة من الزمن متحملا أشعة الشمس الحارقة ووعورة الطريق.

فإن كل من زار المكان واقترب منه أكثر يستمتع بجماله وروعة طبيعته، إذ تبدأ نسمات الهواء الباردة القادمة من قعر المغارة ومن بين انحناءاتها الصخرية الجميلة عبر فوهتها بالانسياب فوق الجسد لتزيل عرقا تصبّب بكثافة على جسم أرهقه السير وأشعة الشمس.

فإلى الشرق من مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية حيث قرية بيت ليد الهادئة، ترتفع إحدى تلال المدينة وتبدو كأنها لوحة جمالية يقل نظيرها بين قرى فلسطينية عديدة، ويزيدها جمالا مغارة "هربة باطن الحمام" التي تتدلى منها قطع صخرية متلونة بطبيعتها، يُعرّفها الأهالي بأنها "نوازل وصواعد" تشبه إلى حد كبير نظيرتها في مغارة جعيتا في لبنان.

يقول موفق شيخة -دليل الزوار والسائحين إلى المغارة- إنه ليس على الزائر سوى أن ينحني انحناءة بسيطة تمكنه من ولوج شقوق ملتوية تؤدي به إلى وسط المغارة، ثم تبدأ حكاية أخرى من الجمال الداخلي تنسيه التعب والمشقة.

يحمل شيخة على كتفه سُلّما حديديا لا غنى عنه لدخول للمغارة، ويقول إن الالتواءات عند فوهتها تحدد طريقة الدخول والخروج "المحفوفة بالخطر أحيانا".

ويشير إلى أنه لا يمكن الدخول لكل المناطق والتجويفات داخل المغارة، إذ يُقدّر عمقها بنحو خمسين مترا في بعض الأماكن، ، وأعمق بكثير في أماكن أخرى لا يمكن الوصول إليها. ومساحتها تقّدر بنحو 120 مترا مربعا.

ويردف قائلا: "وحدها طيور الحمام البري يمكنها الدخول لتلك التجويفات وبناء أعشاشها هناك، ولذا سميت المغارة باسمها: هربة باطن الحمام".

كما أن كلمة "هُرُبَّة" تعني -بحسب لفظهم- الشيء المتسع، وهي تشبه إلى حد كبير مغارة جعيتا في لبنان، بكل تفاصيلها من حيث المناخ والنشأة والتطور والتشكل. وهذا الجمال والتشكيلات التي تحويها كلها تكوّنت طبيعيا، مما يترك أثرا في نفوس زائريها، ويجعلهم يعاودون الزيارة مرة تلو أخرى، كما يقول شيخة.

المغارة بحاجة للسير على الاقدام وأدوات خاصة مثل السلم للدخول إليها (الجزيرة)
المغارة بحاجة للسير على الاقدام وأدوات خاصة مثل السلم للدخول إليها (الجزيرة)

علاج وترفيه
لكن هذا الجمال لم يحظ باهتمام أهالي القرية أكثر من الاعتقاد السائد لديهم لعقود طويلة -ولا يزال- بأن مياهها المنحدرة من بين تجويفات الصخور هي بلسم وشفاء من أمراض عدة، حيث دأب الأهالي على زيارة تلك المغارة مع أطفالهم للاستحمام وشرب شيء من مياهها.

يقول المواطن خالد عبد الرحمن، إنه جاء لأخذ بعض المياه من المغارة، حيث يرى أنها تُطهّر الأمعاء وتنظفها -وخاصة الكلى- وتخلص المرضى من انحباس البول، ويؤكد أن هذا ما تفيد به تجارب أهالي القرية.

ويقول الشاب إبراهيم جمعة -الذي أتى بأطفاله وأقاربه لزيارتها من الداخل لأول مرة في حياته- إنه رغم التواصل المحدود أو المتراخي بين أهالي بيت ليد ومغارتهم، فإنهم لا يقطعونها.

ويضيف أن صعوبة الدخول إلى المغارة وبُعدها عن القرية حدّ من تواصلهم معها، مشيرا إلى أن جمالها وروعة المناظر داخلها جعلته يتجاوز ذلك ويأتي بأبنائه وعائلته ليروا جمال المكان، ويكتشفوا بدائع تكوينه، لا سيما تلك المدليات والملونة بشتى الألوان الطبيعية كالأصفر والأحمر والأخضر والأزرق وغير ذلك.

وفي المقابل يحفر بعض الزائرين أسماءهم على بعض الصخور، ويمارس آخرون هواياتهم باحتضانها والاستمتاع ببرودتها ورائحتها الزكية.

 

مثل قطرات المياه هذه تسهم بتشكيل النوازل والصواعد على مدى ملايين السنين (الجزيرة)
مثل قطرات المياه هذه تسهم بتشكيل النوازل والصواعد على مدى ملايين السنين (الجزيرة)

ملايين السنين
ويقول أستاذ الجيولوجيا في جامعة النجاح بنابلس، محمد أبو صفط، إن هذه التكوينات والتشكيلات الصخرية جاءت بفعل عوامل الطبيعة وعلى امتداد أكثر من مليون إلى ثلاثة ملايين سنة، هو عمر مغارة "هربة باطن الحمام".

ويشرح أبو صفط تكوين المغارة قائلا، "إنها صخور كلسية أذيبت ثم أعيد تبلورها من جديد عبر عملية طبيعية كيميائية، وتلونت نتيجة لهذا التبلور وأصبحت لامعة بعد ترسبها".

ويضيف أنها -مثل كثير غيرها في فلسطين- تُعرف بالمغارات والكهوف الكاريستية، لكنها من أكثرها تطورا بمعنى أن عمرها أطول، وأن الصواعد والنوازل والستائر الصخرية والأعمدة الكلسية تبرز فيها بشكل كبير، إضافة للوحل والطين الذي يترسب في قعر المغارة.

وعبر ملايين السنين، أضحت هذه المغارة وعبر تشققات داخل الأرض مستقطبة لمياه الأمطار التي تحوي ثاني أكسيد الكربون، وتتحول إلى حامض كربونيك مخفف تتفاعل مع كربونات الكالسيوم أو الصخور الكلسية الموجودة وتذيب الكلس وتنقله معها، وبذلك تتشكل مثل هذه الأعمدة والصواعد والنوازل.

وأشار إلى أن عملية تقاطر المياه بطيئة جدا في هذه المغارة، وبالكاد يصل لأمتار معدودة طوال العام مقارنة بغيرها، ويضيف أنه -نتيجة لذلك- تشكلت الصواعد والنوازل والأعمدة على فترة طويلة من الزمن، مؤكدا أن كل نازل يُقابله صاعد، وأن كل عمود يقابله بروزات.

وأوضح أبو صفط أن "هذه المغارة تتميز عن غيرها بأنها باطنية وليست سطحية، وأن تهدم سقفها جاء نتيجة لثقل الهوابط والنوازل وعدم قدرة السقف على حملها"، عازيا برودتها العالية لدخول الهواء والرطوبة وغياب الحرارة.

منصور الصوص رئيس بلدية بيت ليد انتقد العبث بالمغارة من البعض وقلة الاهتمام الرسمي بها (الجزيرة)
منصور الصوص رئيس بلدية بيت ليد انتقد العبث بالمغارة من البعض وقلة الاهتمام الرسمي بها (الجزيرة)

عبث وقلة اهتمام
لكن ما يقلق أهالي بيت ليد وغيرهم هو العبث بالمغارة لدرجة الاستهتار بتحطيم بعض الهوابط والصواعد من أعمدتها وستائرها الحجرية المتنوعة الألوان بين الأخضر والأزرق والأصفر، وغير ذلك.

ويقول رئيس بلدية بيت ليد، منصور الصوص، إن أخطر ما يواجهونه هو "العبث" بمقتنيات المغارة ومحاولة البعض سرقتها وتحطيمها، إضافة لخطر أكبر يداهمهم وهو "خطر المستوطنين الذي لا يبعدون سوى بضعة كيلومترات عن المكان الذي تقع فيه المغارة".

وليس هذا فحسب، بل إن المغارة تعاني -أمام هذه التهديدات الحقيقية- قلة اهتمام الجهات المسؤولة، سواء في وزارة السياحة أو حتى بالاهتمام العلمي ومعرفة التكوينات الحقيقية لها.

ويشير رئيس البلدية إلى أنهم يسعون جاهدين ومنذ سنوات عديدة لخدمة المغارة وتحويلها لمكان سياحي رائد ومميز، خاصة في ما يتعلق باستصلاحها وتنظيفها وتجهيز طريقها وحمايتها بسياج عازل.
لكن هذه المحاولات باءت بالفشل حتى اللحظة -كما يقول الصوص- ولم تقدم أي من الجهات المسؤولة -وخاصة وزارة السياحة والآثار- على بذل أي جهد ينطوي عليه خدمة المغارة وإظهارها بوضعها الحضاري الجيد.

وحذّر الصوص في المقابل من تكرار زيارة المستوطنين الإسرائيليين للمغارة، إضافة لأكاديميين إسرائيليين جاؤوا من جامعات مختلفة لأكثر من مرة وأخذوا عينات منها.

المصدر : الجزيرة