مذبحة الطنطورة.. قرية دمرتها إسرائيل وأبادت رجالها وهجّرت نساءها وأطفالها

إحدى مجازر التطهير العرقي التي نفذتها عصابات الهاغاناه في فلسطين، وقعت في مايو/أيار 1948 في الطنطورة (جنوبي حيفا) وراح ضحيتها نحو 280 فلسطينيا غالبيتهم من الرجال، ودفنوا في مقابر جماعية، ثم دُمرت القرية عن آخرها، وهُجر من نجا من أهلها خارج حدود دولة الاحتلال.  

قرية عريقة

الطنطورة قرية فلسطينية عريقة يمتد تاريخها إلى القرن الـ13 قبل الميلاد، إذ كانت تتربع قرية "دور" الكنعانية فوق تل صغير بارز يشرف على البحر الأبيض المتوسط، يتخذ شكل طنطور "أي مرتفع على هيئة قمع أو قبعة مخروطية الشكل" على بعد حوالي 24 كيلومترا جنوبي مدينة حيفا.

وتحتل القرية موقعا إستراتيجيا متوسطا بين أكبر حواضر فلسطين ومراكزها التجارية في يافا وحيفا، مما جعلها حلقة وصل للنشاط التجاري الداخلي، ساهم في ازدهاره امتلاك القرية محطة قطار للخط الساحلي، فضلا عن مينائها الذي وفر منفذا بحريا للخارج، الأمر الذي جعلها مطمعا للاحتلال.

ومع نهاية مايو/أيار 1948 أصبحت الطنطورة، التي امتدت على مساحة تصل إلى 14 ألفا و520 دونما، قرية مدمرة لا يكاد يُرى من معالمها القديمة إلا النزر القليل، وأصبح قاطنوها الذين بلغ عددهم أكثر من 1500 نسمة أثرا بعد عين.

قرية الطنطورة الساحلية التي هجر أهلها بقوة السلاح وأقيمت على أنقاضها مستوطنات (الجزيرة)

الاجتياح الإسرائيلي

في 9 مايو/أيار 1948 عقدت سلطات الاحتلال، وبينها قادة محليون بجماعة "الهاغاناه" المسلحة، اجتماعا للتباحث بشأن القرى العربية (الفلسطينية) التي لم تخضع للاحتلال وتقع ضمن "دولة إسرائيل" بحسب التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1947، وكان من بين هذه القرى الطنطورة، وأسفر اجتماع المجلس الإسرائيلي عن قرار يقتضي بطرد سكان هذه القرى أو إخضاعهم.

وبالفعل، وبعد إعلان قيام إسرائيل بأسبوع واحد، شن أفراد الكتيبة 33 للهاغاناه، والمعروفة باسم لواء "الإسكندروني" وتحديدا الكتيبة الثالثة، هجوما على الطنطورة ليلة 23 مايو/أيار 1948، بقيادة "دان إبشتاين" ومن كافة الجهات، وأُغلقت مداخل القرية والطرق المؤدية لها، لمنع وصول دعم من القرى المحيطة، وكانت الزوارق العسكرية الإسرائيلية تجوب عرض البحر طوال عملية الاجتياح.

وقد استيقظ الناس عند منتصف الليل على أصوات الرصاص ودوي الانفجارات في كل مكان، وكان عدد المدافعين من رجال القرية قليلا، فضلا عن ضعف التسليح وقلة الذخيرة، كما افتقر المدافعون للتدريب والخبرة، مما أدى إلى إهدار كثير من الذخيرة أثناء الاشتباك، ونفادها عن آخرها في وقت قصير، وخلال الهجوم أطلق عناصر الهاغاناه النار على المدنيين العزل، وقتلوا جماعة منهم في شوارع القرية وداخل المنازل.

ومع حلول الصباح، سقطت القرية في يد الاحتلال، وجمع الجنود السكان عند الشاطئ، وفصلوا النساء والأطفال والمسنين من الرجال، وعزلوا الرجال إلى جانب آخر، وبحسب شهود عيان فلسطينيين، فتش الجنود الإسرائيليون الرجال والنساء وسرقوا كل ما وجدوه من مال وذهب ومجوهرات وساعات وأوراق ثبوتية.

ولم يسلم من التفتيش حتى الرضع، وعندما تأخرت فتاة صغيرة في خلع قرطها، انتزعته إحدى المجندات فتمزقت أذن الفتاة، وأخذت تنزف، وقد أكد شهود العيان كذلك وقوع حالات اغتصاب.

العصابات الصهيونية منعت سكان الطنطورة من العودة لقريتهم بعد المجزرة ودفعتهم للرحيل (الجزيرة)

إبادة وتهجير

شهدت الطنطورة صباح ذلك اليوم إبادة جماعية للسكان العزل، ولا سيما الرجال والفتيان الذين زاد عمرهم على 14 سنة، إذ أطلق الجنود عليهم النيران، وأردوا معظمهم صرعى.

ويقدر عدد ضحايا المجزرة -بحسب المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية بإسرائيل (عدالة)- بنحو 280 شخصا غالبيتهم من الرجال، وقد استطاع أهل القرية تدوين 128 اسما، بينما ظلت بقية الأسماء مجهولة.

وبحلول الظهيرة، انتهت عملية القتل مع مجيء مختار مستوطنة "زخرون يعقوب" بأمر مكتوب سلمه للجنود، فساهم ذلك في إنقاذ حوالي 40 رجلا اقتيدوا للقتل. واعتقل من بقي من الرجال على قيد الحياة، ونقلوا إلى سجن قرية إجليل، حيث أجبروا على العمل في السخرة لصالح الإسرائيليين.

أما النساء والأطفال والمسنون الذين بلغ عددهم نحو 1200 فرد، فقد اقتيدوا سيرا على الأقدام إلى بستان يقع شرق القرية، ثم حملوا في شاحنات، ونقلوا إلى قرية الفريدس المحاذية، وهدمت الطنطورة بكاملها، ووضعت سلطات الاحتلال يدها على كافة أراضيها.

وفي غضون ذلك الصيف، طرد معظم أهالي الطنطورة من المناطق الأخرى التي تسيطر عليها إسرائيل، ولم يبق منهم إلا نحو 200 شخص في الفريدس، ومعظمهم من الأطفال والنساء اللائي اعتقل أزواجهن، وقد رحل هؤلاء السكان فيما بعد خارج حدود إسرائيل، خلال عمليات تبادل للأسرى، ولحقت بهم عائلاتهم.

مقابر جماعية

بعد انتهاء القتل الجماعي، عجّت القرية بالجثث، في المنازل والطرقات والساحات والشاطئ وحتى الشوارع المؤدية للقرية، إلى درجة أن عملية دفنها بحسب اعتراف جنود إسرائيليين استغرقت نحو 10 أيام.

وأجبرت قوات الاحتلال العشرات من رجال الطنطورة على حفر خنادق كبيرة، وتجميع الجثث التي غص بها المكان، ثم دفنها في تلك الخنادق، وبعد انتهائهم من "المهمة" أجهز عليهم الجنود هم أيضا، ودفنوهم مع الجثث في تلك المقابر الجماعية.

وقد أجرت وكالة الأبحاث البريطانية "فورنسيك أركيتكتشر" البحثية التي تجري تحقيقات في انتهاكات الدول، بطلب من مركز "عدالة" الحقوقي، وبالتعاون مع لجنة من أهالي الطنطورة، تحقيقا حول المقابر الجماعية في القرية، استغرق 18 شهرا، واستُخدمت فيه تقنيات حديثة لتحليل مواد أرشيفية وصور جوية وخرائط للقرية، والاستعانة بشهادات ناجين من المجزرة.

وفي مايو/أيار 2023، كشفت نتائج التحقيق عن 4 مواقع لمقابر جماعية في الطنطورة، أحدها يقع تحت موقف للسيارات على الشاطئ، والثاني تحت ممر للمشاة داخل القرية السياحية، والثالث على الشاطئ قرب بيت الحاج يحيى، أما الأخير فيقع داخل المقبرة الإسلامية التاريخية للقرية.

ناجون من مجزرة الطنطورة أثناء تهجيرهم ونقلهم بحافلات إلى مناطق أخرى (الجزيرة)

الرواية الإسرائيلية الرسمية

تغافلت الروايات الإسرائيلية الرسمية عن التعرض لوقائع مجزرة الطنطورة، واكتفى جيش الاحتلال بادعاء أن القرية آوت نحو 50 لاجئا من المناطق الأخرى، استعدوا بالتعاون مع القرى الأخرى للتصدي لقوات الاحتلال، وعد الجيش وفقا لذلك القرية قاعدة معادية تجب مهاجمتها.

ومن جهة أخرى زعمت جماعة "الهاغاناه" المسلحة أن القرية كانت نقطة تهريب للمتطوعين المصريين القادمين إلى فلسطين بحرا.

وأعلن الجيش الإسرائيلي -في بيان عسكري- أنه أسر المئات أثناء الهجوم، فضلا عن كميات كبيرة من الغنائم. وأنكرت السلطات الإسرائيلية وقوع مجزرة، وعبرت عن ذلك بأنها كانت معركة كغيرها من المعارك.

شهادات إسرائيلية تؤكد وقوع مجزرة

بقيت ذكريات المأساة لوقت طويل عبارة عن روايات شفوية يرويها من نجوا منها، في حين تكتمت جميع المصادر والروايات الإسرائيلية الرسمية وغيرها على ذكر المجزرة، حتى أنجز الباحث الإسرائيلي تيودور (تيدي) كاتس أطروحة ماجستير عام 1998 تتعلق بالأحداث التي وقعت ليلة 23 مايو/أيار 1948، والنهار الذي يليها في الطنطورة.

واستند بحثه إلى وثائق إسرائيلية رسمية سرية، وشهادات مسجلة صوتيا لشهود عيان من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، من بينهم جنود من لواء "الإسكندروني" شاركوا بالمجزرة، وكشف عن وقوع مجزرة وثبوت جرائم حرب ارتكبتها عناصر "الهاغاناه" ذلك اليوم في الطنطورة.

إحدى المقابر الجماعية في الطنطورة أصبحت موقفا للسيارات (الجزيرة)

وعام 2022 نشرت شهادات مسجلة لجنود شاركوا في المجزرة، بعضها بالصوت والصورة، عبْرَ فيلم وثائقي للمخرج الإسرائيلي "ألون شفارتز" يتحدث عن جرائم الإبادة التي وقعت بحق السكان العزل في الطنطورة.

وأكد تافو هيلير قائد فصيل في لواء "الإسكندروني" -خلال الفيلم الوثائقي- أنهم سيطروا على القرية بأوامر من رئيس الوزراء السابق ديفيد بن غوريون، الذي أمر بطرد العرب. واعترف الجنود بأنهم اعتقلوا جميع السكان وأطلقوا عليهم النار، وأبادوا الرجال، ثم رحّلوا النساء والأطفال والشيوخ.

وقد كان القتل في تلك الحادثة -وفق اعتراف الجنود- بلا حساب، وصرح أحد الذين شاركوا في المذبحة بأنه لا يعرف عدد الذين قتلهم، إذ كان لديه مدفع رشاش و250 طلقة استخدمها كلها في قتل الفلسطينيين. ويؤكد آخر "لقد قتلناهم بدون رحمة" ومن اعترافاتهم أنهم كدسوا الناس في برميل ثم أطلقوا النار عليهم، وكان الدم يسيل من البرميل.

ويؤكد أحدهم أن المجزرة فرض عليها تعتيم تام، ومنع عليهم الحديث عنها، لأن ما حدث كان فظيعا، وقال "أخذ الجنود قاذف اللهب، ولاحقوا السكان وأحرقوهم" كما وضع جندي الناس في أقفاص عليها أسلاك شائكة، ثم أطلق عليهم النار، واغتصب فتاة في الـ16 من عمرها، أما الجندي حاخيم ليفين، فيروي كيف أطلق زميل له النار على مجموعة مكونة من 15 إلى 20 فلسطينيا وقتلهم جميعا.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية