أول مسجد بناه القائد عقبة بن نافع.. مطالبة بإنقاذ جامع تلمين بالجنوب التونسي

باحثون يطالبون الدولة بالاهتمام بجامع تلمين على غرار جامع القيروان (الجزيرة)

تونس- قبل أن يتجه القائد الإسلامي الفاتح عقبة بن نافع نحو عاصمة الأغالبة (القيروان) وسط غرب تونس، عرّج على الجنوب في محافظة قبلي واختار أن يحطّ الرحال سنة 49 للهجرة في قرية تلمين الرومانية الأثرية أو "تريس تماليني" كما سمّاها الإمبراطور الروماني "هدريانوس".

واستوطن الرومان هذه المنطقة الغنية بغابات النخيل والزيتون وثروات المياه التحتية الصافية الصالحة للشرب والحبوب، وأسسوا فيها كنيسة "دوناتيا".

وتُنسَب هذه الكنيسة "للحركة الدينية الدوناتية المنشقة عن المذهب الكاثوليكي، وكانت معارَضة اجتماعية انضم إليها المستضعفون والذين لم تستوعبهم الحضارة الرومانية، ولكن الكنيسة عادت مجددا إلى أيدي الكاثوليكيين حتى جاءت طلائع الفتح العربي الإسلامي" وذلك نقلا عن كتاب "نوافذ على تاريخ نفزاوة" للمؤرخ التونسي محمد ضيف الله.

واختار عقبة بن نافع دخول هذه المنطقة الإستراتيجية عبر الطريق الصحراوي الداخلي وتجنّب الطريق الساحلي خوفا من الهجوم البيزنطي، كما يوضح للجزيرة نت الباحث سامي الشايب الذي ينحدر من المنطقة.

عدة حضارات تعاقبت على مسجد عقبة بن نافع وأثرت في معماره بحسب الباحث سامي الشايب (الجزيرة)

مسجد على أنقاض كنيسة

وفي إطار حملته لنشر الإسلام، كانت أولى الخطوات التي خطاها بن نافع هي تحويل كنيسة "دوناتيا" إلى مسجد سمي باسمه بعد اعتناق السكان الإسلام، وبذلك يكون المسجدَ الأول الذي بناه قبل عام من تشييده جامع عقبة بن نافع بالقيروان سنة 50 للهجرة.

أما ضيف الله فيقول في كتابه إن بن نافع أسس الجامع في قرية تلمين، و"يبدو أنه لم يحتل مكان الكنيسة وإنما جاورها فقط، ولعل من الأدلة على ذلك أن هناك مساحة فارغة حتى الآن إزاء الجامع من الممكن أنها كانت موضعا للكنيسة".

ومن الأدلة التي ذكرها أيضا أن "بعض المواد التي كانت مستعملة في بناء الكنيسة لم يتم استغلالها في بناء الجامع مثل تيجان الأعمدة، وهي حاليا موجودة بساحته".

ساحة جامع عقبة بن نافع في تلمين (الجزيرة)

 

وإلى جانب كونه أول مسجد بُني في أفريقيا، فلجامع عقبة بن نافع في تلمين خصوصيات معمارية ينفرد بها، تغيّرت بتغيّر الحضارات التي تتالت على المنطقة وتعاقبت على المسجد. والزائر لهذا المعلم التاريخي يستشعر ذلك.

تغيّرات معمارية

حافظ بن نافع على مميزات العمران الروماني للمسجد كالأعمدة والتيجان التي مازالت موجودة لليوم، ولكنه أضاف اللمسة الإسلامية من خلال إقامة المحراب لأداء الصلاة.

كما كان مسجد تلمين في قبلي مسرحا لاعتناق عدة مذاهب أثرت في معماره وأدواره، إذ شهد تغيرات مع وصول الدولة الرستمية (777- 909 م) التي تبنت المذهب الإباضي، فأضافت صومعة دائرية وتقشفت في مظاهر الزينة وألغت أغلبها، وقامت بتوسعة المسجد بتشييد ساحة كبيرة للتدريس، فتحول إلى مدرسة لتعليم ونشر هذا المذهب، كما يوضح الشايب.

أعمدة الكنيسة التي يقال إن المسجد بني على أنقاضها (الجزيرة)

أما التحول الكبير فحدث مع الدولة المُرادية (1631- 1702 م) التي أتاحت لمفتيها استعمال الجامع لتقديم دروس جديدة تشجّع الناس على التوطين بالمدينة وتحرّم النهب وتحث على التهدئة الاجتماعية وطاعة الحاكم.

بقايا آثار الكنيسة في ساحة المسجد (الجزيرة)

كما غطّت الدولة المُرادية وصقلت الجانب الذي كان فضاء مفتوحا لتقديم دروس المذهب الإباضي وفرشته بالمفارش التركية لتبنيها المذهب الحنفي، وفق المصدر ذاته.

استمرت التحولات في مسجد عقبة بن نافع في تلمين حتى بداية القرن 18 للميلاد عندما تم بناء مسجد جديد حذوه، يسمى جامع "سيدي بوقديمة" وهو مقام ولي صالح يتبنى الطريقة الصوفية "وهنا سيتراجع دور مسجد تلمين" حسب ما يؤكد الشايب.

الجانب التاريخي لجامع عقبة في تلمين من الخارج (الجزيرة)

 

وخلال فترة الاستعمار الفرنسي لتونس منذ عام 1881، مرّ مسجد تلمين بأحلك فتراته، حيث عاث المحتل الفرنسي فسادا فيه وهدمه وخالف وعده بإعادة بنائه وتهيئته وفق خصائصه المعمارية الأصلية.

ألق وإشعاع

ويقول الشايب إن مسجد عقبة بن نافع استعاد ألقه وإشعاعه مع استقلال تونس سنة 1956، واسترجع دوره في تقديم الدروس الدينية والتحق بالفرع الزيتوني، وأصبح تحت إدارة المعهد الوطني للتراث (مؤسسة عمومية تحت إشراف وزارة الثقافة).

وقد هُدم جزء كبير من هذه المنارة الدينية الهامة ونُهبت آثاره باهظة الثمن، وتوّلت السلطات التونسية إعادة ترميمه، ولكنها خالفت خصائصه الأصلية في عملية إعادة الصيانة.

ولم يتبق من أوّل مسجد بُني في أفريقيا سوى أعمدة وتيجان رومانية مرصوفة في صحنه بلونها الأحمر الأصلي، شاهدة على العصر وعلى عراقة هذا الصرح.

ويدعو صادق التواتي أحد مواطني المنطقة إلى ضرورة تدخل الدولة التونسية ممثلة بوزارتي الشؤون الدينية والثقافة (الوكالة الوطنية للتراث والمعهد الوطني للآثار) من أجل ترميم هذا المعلم التاريخي وصيانته والحفاظ عليه.

جزء من الترميم الحديث لجامع عقبة بن نافع في تلمين من الداخل (الجزيرة)

كما يطالب، في تصريحه للجزيرة نت، بإدراجه ضمن المعالم الأثرية وإيلائه الاهتمام الذي يستحقه على غرار جامع عقبة بالقيروان.

ويشدد التواتي على أن منطقة تلمين ضاربة في التاريخ ولكنها "منسية وسقطت للأسف من برامج ومخططات التنمية منذ دولة الاستقلال" وعلى أنه "حان الوقت لدعمها والالتفات لها من خلال الحفاظ على معالمها الأثرية التاريخية المتعددة والمتنوعة".

المصدر : الجزيرة