"جيران أبي العباس" بعد "جارات أبي موسى".. الوزير المغربي أحمد التوفيق ومغامرة روائية تاريخية جديدة

في هذا الحوار نزع أحمد التوفيق عباءة الوزير، ليتحدث بلسان الروائي والمؤرخ

الروائي والمؤرخ أحمد التوفيق
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب الروائي أحمد التوفيق (الجزيرة)

يعود المؤرخ والروائي المغربي أحمد التوفيق إلى عالم الرواية بإصداره الجديد "جيران أبي العباس" يحكي فيه سيرة واحد من أشهر رجالات مراكش، في نسج روائي يحضر فيه أمراء وعلماء وفلاسفة كانوا عنوان ازدهار ونهضة العصر الموحدي بالغرب الإسلامي.

وتبدو "جيران أبي العباس" وكأنها صدى لأولى رواياته "جارات أبي موسى" التي اقتحم بها السرد الروائي وهو في منتصف عقده الخامس قادما من عوالم التاريخ.

وللتوفيق روايات أخرى هي "شجيرة حناء وقمر" و"السيل" و"غريبة الحسين" وسيرة ذاتية في جزئين "والد وما ولد" إلى جانب مؤلفات في مجال التاريخ.

يعرف المغاربة التوفيق بوصفه وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية حيث شغل هذا المنصب منذ 2002، لكن كثيرين منهم يجهلون أن وراء صرامة هذا الرجل وشخصيته الوقورة روائيا ومبدعا، فهو متوار خلف منصبه ومقل في الحديث عن الكاتب الذي يسكنه والذي لا يجد متعته إلا والقلم يفيض مغامرات سردية على الورق.

في هذا الحوار مع الجزيرة نت، ينزع التوفيق عباءة الوزير، ويتحدث بلسان الروائي والمؤرخ عن رواياته وشخصياتها، وعن التاريخ والتصوف والسينما والمرأة، وفيما يلي نص الحوار:

  • في روايتك الأخيرة "جيران أبي العباس" تحكي سيرة أحد رجالات مراكش السبعة أبو العباس السبتي صاحب مذهب الوجود ينفعل بالجود، وقبل ذلك قدمت درسا دينيا أمام الملك حول هذه الشخصية وسيرتها ومذهبها، ما الذي جذبك في هذه الشخصية؟

هذه الرواية تحمل عنوان "جيران أبي العباس" وكأنها صدى لروايتي الأولى "جارات أبي موسى" فلابد من التنبه إلى الجيران قبل الكلام عن أبي العباس. أبو العباس السبتي أحمد الخزرجي جاء من سبتة إلى مراكش عند دخول الموحدين إليها خلفا للمرابطين سنة 540 هجرية، دخلها شابا وعاش بها 60 عاما إلى أن مات سنة 601. والمقصود بالجيران دولة الموحدين في نشأتها وازدهارها، ويعتبر هذا العهد من أزهر عصور تاريخ المملكة المغربية بخلفائه وعلمائه ومفكريه وكل من كان حولهم من الصالحين والصالحات.

أبو العباس يستحق أن يكون بارزا في هذه الرواية لأن حياة الرجل ومذهبه يدوران حول مسألة إنسانية مهمة هي مسألة العطاء، ولقد تدرج في مذهبه حتى بلغ مرحلة كان يعطي فيها كل ما يقع بيده ولا يحتفظ لنفسه وأهله إلا بالعشر، فكانت له كما قال كرامة أن يدعو فيستجاب له.

وأثار أبو العباس ومذهبه انتباه عدد من الفلاسفة في زمنه منهم أبو الوليد بن رشد الذي أرسل إليه من يجالسه ويكتب تقريرا عنه، فلما بلغه الخبر قال قولته الشهيرة "هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود" بمعنى أن كل الأسباب تتجاوب مع العطاء، فإذا أعطيت ملكت سر الوجود.

رواية أحمد التوفيق الأخيرة “جيران أبي العباس” في إحدى المكتبات بالرباط
هذه الرواية تتناول التصوف وتنتمي لجنس الرواية التاريخية (الجزيرة)

ولأنني عشت في مراكش 8 سنوات خلال فترة الدراسة قادما إليها من بلدة في نواحيها بالأطلس، كنت أشعر دائما أن لهذه المدينة فضلا علي، وبعدما عينت وزيرا للأوقاف اكتشفت أن مراكش تتصدر مناطق المغرب من حيث عدد الأوقاف ومشاريع الخير، لهذا وذاك تستحق مراكش هذه الرواية في نظري كما يستحقها كل المغاربة الذين يهتمون بتاريخهم.

  • كنت في عقدك الخامس عندما نشرت أولى رواياتك "جارات أبي موسى" 1997 ثم "شجيرة حناء وقمر" و"السيل" (1998 ) وغريبة الحسين (2000)، لكنك توقفت عن الكتابة الروائية إلى أن قدمت عملك الأخير "جيران أبي العباس" عام 2020، لماذا تطلب الأمر 20 سنة قبل أن يعود أحمد التوفيق إلى عالم الرواية؟

مع ذلك أصدرت كتابين قريبين من الرواية وهما سيرتي في الطفولة والمراهقة "والد وما ولد". الكتابة ليست حرفتي ولا أتصنعها، ولست في سوق الكتابة والمنافسة في هذا الشأن، أنا كما تعلمين اختصاصي هو التاريخ لكني أحب أن أكتب لنفسي ولمن يريد وأجد متعة في ذلك.

الكتابة تبدأ بمشروع وفكرة، إذا استهوتك واستطعت أن تجد لها وقتا للتعبير فإنك تقوم بذلك، إنما ليست كل النصوص الروائية بنفس السهولة، فمثلا روايتي الأخيرة "جيران أبي العباس" احتاجت مني وقتا لأصنع هيكلها وبنيتها التاريخية ولتدقيق بعض التواريخ والشخصيات قبل أن أؤثث ذلك كله بالخيال.

في المقابل رواية "جارات أبي موسى" كتبتها في أسابيع، لأني كنت فيها حرا، فهي وإن كان عمقها تاريخيا ووقائعها تعود إلى العصر المريني فإنها كلها خيال.

ولتكتب بعض النصوص لابد لك من البحث والقراءة، وهذا ما حدث معي في رواية "شجيرة حناء وقمر"، هنالك فصل أتحدث فيه عن أحد الأعيان الذي اعتزم الزواج مرة أخرى واستدعى صائغا يهوديا، فكان هذا الأخير يعرض ما سيصنع له والآخر يشترط عليه، هذا الفصل تطلب مني القراءة عن الحلي المغربية حتى أتحدث عنها في عدة صفحات، وفي "غريبة الحسين" كان لابد من الإلمام بالموضوع وهو الموسيقى الأندلسية.

الخيال ليس جامحا في بعض رواياتي فهي من الجنس الذي يعتمد مرجعيات في الحياة بكل منطقها وتأثيثاتها.

الروائي والمؤرخ أحمد التوفيق وروايته الأخيرة جيران أبي العباس
المؤرخ التوفيق وروايته الأخيرة "جيران أبي العباس" (الجزيرة)
  • قبل أن تنشر أولى رواياتك أواخر التسعينات "جارات أبي موسى"، كنت تبحث عن حكمة ما لتجعلها موضوع رواية، هل وجدت ما تبحث عنه بعد 5 روايات؟

يبحث الإنسان عن مثل معينة، والمثالية التي في مقدور الإنسان هي نوع من الاجتهاد من أجل الكمال، وإذا كنت تبحث عن هذا في الناس فمعناه أنك تبحث عن أشياء تعرفها في نفسك فيها ضعف وقوة في نفس الوقت، عندما نكتب نصنع حياة نحن جزء منها، فلا يمكن أن نكتب أشياء لا نحس بها ولا فائدة منها.

الرواية هي جزء من الروائي، فيها جانب من الحياة التي تعجبنا وتضايقنا وتقض مضجعنا، ونعبر عن كل ذلك من خلال الشخصيات والحوارات والكلام والمعاني. ولابد لمن يكتب الرواية أن يقرأ للآخرين، وقد كنت أقرأ كثيرا من الروايات وتأثرت بها بشكل ما، ولكني ما تخصصت في الأدب، ولا أظن أن التخصص في الأدب شرط من شروط كتابة الرواية، المهم أن تشعر أن لديك إمكانية التخيل والتصور والتعبير.

  • ما هي الروايات التي تأثرت بها؟

أذكر أنني كنت في فترة المراهقة والشباب أقرأ بعض المترجمات من الأدب الروسي وقد تأثرت كثيرا بكتابات دوستويفسكي وتولستوي وغوركي، وبعد ذلك قرأت الأدب الفرنسي لبلزاك وغيره، وقرأت حياة بعض الروائيين وكيف تعاملوا مع الرواية، ووجدت أن بعضهم كان -كما قلت لك- للتأكد من جزئية من جوانب الحياة، يراقب الناس في أماكن عملهم.

في الرواية تفاصيل كثيرة والروائيون يختلفون في مقاس نزولهم إلى التفاصيل، في بعض الأحيان أشعر أنني أنزل إلى التفاصيل وأحيانا لا، وأعتقد أن دراستي للجغرافيا في الجامعة أعانتني إلى حد ما على الأوصاف التي وضعتها في رواياتي وعلى الدقة في وصف المحسوسات.

  • حضور المرأة في رواياتك مهم وفعال، فهي تحضر بصورة مثالية جمالا وعقلا وسلوكا وأدبا، كيف ينظر الروائي أحمد التوفيق للمرأة؟ وهل تأثرت بنساء في محيطك؟

ليس هنالك رجل لم يتأثر بالنساء، فكل رجل هو ابن أمه وأخو أخته، وهو رجل تعجبه امرأة ويتزوج امرأة وربما يرزق بنتا يعيش معها حياة الأنوثة. بصفة عامة خلق الله تعالى في الوجود الذكر والأنثى، وليس الذكر كالأنثى بمعنى أن الأفضلية للأنثى.

وفي نظري إذا أردت أن تركب شيئا مثاليا على الإنسان، فأظن أن جنس الأنثى هو الأنسب، لأن المثالية قرينة بالعطاء والمرأة مجبولة على أن تكون مصدر العطاء.

لذلك فالشخصيات النسائية في رواياتي تدخل فيما قلنا إنه البحث عن شيء في ذاتك، فتصنع ما وجدته أو ما لم تجده أو ما تريد أن يكون أو ما تريد أن يجده الآخرون. تركب على الأنثى أوصافا تود لو أن الحياة كانت كلها تلك الأنثى، فيها العطاء والرقة والكلام اللطيف والحكمة والصبر والقوة في الضعف.

  • ثمة نفحة صوفية في أعمالك الروائية، وبعض أبطالها قادمون من عالم التصوف والزهد، هل هذا بسبب انتمائك الصوفي؟ وهل ترى أننا اليوم بحاجة للتصوف للتفاعل مع هذه الحياة المادية؟

التصوف حوله مغالطات كثيرة، فبعض الناس معه كلية وآخرون ضده كلية، والأمر ليس كذلك. حقيقة التصوف تتلخص في معنى التوحيد أي ألا تتخذ مع الله إلها آخر، بعكس الذين ينتقدون التصوف بوصفه شركا، وهذه سطحية كبيرة.

وأعتقد أن الاسم جنى على هذا التيار وهذه السبيل في الحياة، في نظري التصوف هو أن توحد الله في نفسك لا بحفظ محفوظات أو ألفاظ، والمعنى المحسوس للتوحيد هو ألا تكون أنانيا وتتحرر من هواك وتحاسب نفسك في الصباح والمساء، فإذا كنت كذلك فأنت متصوف وما عدا ذلك إما حواشي وفلسفة ومظاهر وانزلاقات واستعباد.

في حياتي علاقة بهؤلاء المتكرسين لهذا المعنى وراثة عن أسلافنا، وبالنسبة لي الأمر واضح وليس فيه أي غموض، فأنفسنا تستعبدنا بالاستهلاكات التي تضرنا أو تضر بغيرنا، وإذا تحكمنا في أنفسنا ووجدنا اللذة في استهلاكات ومتع أخرى نكون أحرارا، لأن الحرية هي جوهر التصوف، وفي هذا جواب على سؤال إن كنا بحاجة للتصوف.

رواية “تغريبة الحسين” للروائي أحمد التوفيق وصدرت عام 2000
هذه الرواية صدرت عام 2000 (الجزيرة)
  • ظهرت موجة من الروايات غيرت النظرة حول التصوف وأثرت في الناس فأصبحوا يستشهدون بأعلام التصوف في العالم الإسلامي مثل جلال الدين الرومي وشمس التبريزي وابن عربي؟ ما رأيك في هذه الموجة؟

هناك تصوف الأخلاق وتصوف الحقائق والتعابير، نظرة جلال الدين الرومي للكون والناس شاعرية، ومحيي الدين بن العربي تحليلاته عرفانية.

وأنا لا أتحدث عن هذا النوع من التصوف، وليس هذا ما ينبغي أن يكون في مقدمة إعجاب المسلمين. هؤلاء قمم في باب من أبواب التصوف، لكن في نظري أبو العباس السبتي هو قمة أكبر من هؤلاء، ومقامه أعظم بكثير من صوفية المعاني، لأن مذهبه عملي وكان يهمه المحتاجون.

أن نقول الشعر ونتغنى ونرى المعاني ونتذوقها أمر نختلف عليه لأن الأذواق تختلف، لكن الذي نتذوقه جميعا هو فعل الخير والعطاء وإسعاف الناس، وهذا هو الفرق بين التصوف الأخلاقي والاجتماعي والتصوف العرفاني.

  • معظم رواياتك تستقي من التاريخ حبكتها، فقبل أن تكون روائيا أنت مؤرخ، فأين يلتقي الروائي والمؤرخ وأين يفترقان؟

يفترقان في أمور كثيرة وقد يلتقيان، يفترقان في أن المؤرخ يبحث فيما وقع في الماضي، سياسيا كان أو اجتماعيا أو ثقافيا أو علميا، ويعتمد المؤرخ في ذلك على وثائق مادية أو مكتوبة أو شفوية ويقدمها للناس بطريقة علمية لكي يقتنعوا بها.

لذلك فالمؤرخ ليس حرا في أن يقول ما يريد، وأن يستعمل الخيال في التاريخ، على أنه لإدراك العلاقة العضوية بين الأمور في التحليل التاريخي، يمكن أن يأتي ببعض الفرضيات المبنية على وقائع.

أما ما يقوله الروائي فهو جزء من الحياة والحقيقة، يصنع أشخاصا لا وجود لهم ليعطي عبرهم المعاني والعبر، ويمكنه أن يستفيد من التاريخ إذا كان ما يكتبه رواية تاريخية.

“والد وماولد” سيرة ذاتية لأحمد التوفيق في جزئين عن طفولته ومراهقته
المؤلف يحكي سيرته الذاتية عن طفولته ومراهقته في جزئين (الجزيرة)
  • نقلت روايتك "جارات أبي موسى" إلى السينما من قبل المخرج عبد الرحمن التازي، كيف تقيم هذه التجربة؟ وبشكل عام تحويل الروايات إلى أفلام سينمائية أو مسلسلات؟

الذين تكلموا في العلاقة بين الرواية والسينما خلصوا إلى أن قراءة بعض الروايات أفضل من مشاهدتها، وهناك روايات مشاهدتها في الأفلام منحها بريقا.

أما روايتي "جارات أبي موسى" فنقلها إلى السينما جذب الاهتمام إليها وعرِف بها، لكني أعتقد أن نقل الرواية إلى السينما يتوقف على حرص جهة الإخراج على أمور كثيرة، وهذا الحرص خاضع للإمكانات المادية ثم للقراءة الجيدة للرواية.

مثلا ليس مستساغا بالنسبة لي كمؤرخ الوقوع في ما يسمى "إبطال الزمن" بمعنى أن تورد في زمن ما أمرا غير ممكن، فأن تتكلم عن سفينة بخارية في القرن 17 أو 15 أمر غير معقول، وأن تضع في فم شخص كلاما ليس متوقعا أن يصدر منه في ذلك الزمن مشكلة.

أنا أعذر ذلك، لأنني أعرف أن المخرج يصبح كاتبا جديدا، ولكن عليه أن يحترم بقدر الإمكان النص الأصلي، وأن تكون لديه إمكانات لينزل إلى مستوى التأثيث المادي الذي صار عليه النص الروائي.

  • نشرت 5 روايات وكتب في التاريخ، لكنك مقل في الظهور الإعلامي، ولا تنظم فعاليات للتواصل مع القراء، لماذا هذه المسافة بينك وبين الجمهور؟

لأنني لا أكتب لشيء معين، والكتابة ليست حرفتي وليس لي منها ما وراءها، فمثلا منذ سنوات اقترح علي أحد الناشرين العمل على نشر روايتي لتكون ضمن المقرر المدرسي، وعندما تكون كذلك تباع منها الآلاف. فقلت له لا تسعَ لهذا لأنني لست معنيا بهذا الأمر، فأنا أكتب عندما تلح علي فكرة ما وليس لدي غرض من وراء الكتابة.

المصدر : الجزيرة