"وداعا كارمن".. شهادة نضج السينما الأمازيغية

من مشاهد وداعا كارمن
صورة من أحد مشاهد فيلم "وداعا كارمن" الذي فاز بجوائز محلية عديدة

نزار الفراوي-الرباط

دأب محمد أمين بنعمراوي على حصد الجوائز كلما حل بالمهرجانات المغربية، وخصوصا بمهرجان طنجة القومي للسينما، بأفلامه القصيرة التي حملت مبكرا جنين مخرج بحس إبداعي متميز.

لم يغب هذا الشاب كثيرا حتى عاد مبشرا بأول فيلم طويل له تحت عنوان "وداعا كارمن"، لفت انتباه كثير من النقاد والمهتمين.

ووجد الفيلم صداه انطلاقا من طنجة حيث حاز جائزة الفيلم الأول، وجائزة أفضل دور رجالي ثانوي، وصولا إلى مهرجان سينما الذاكرة المشتركة بالناظور (شمال المغرب) الذي توج مؤخرا بجائزته الكبرى، ليكرس موهبة واعدة بالأمل في مستقبل السينما الأمازيغية والمغربية.

وفاز "وداعا كارمن" أيضا بجائزة اللجنة العلمية للمهرجان، فضلا عن جائزة أحسن دور رجالي التي فاز بها الممثل سعيد مارسي مناصفة مع الممثل المصري عمرو واكد عن دوره في فيلم "الشتا اللي فات".

قوة الفيلم في الانسجام الجميل بين القصة الفردية التي يجد فيها المشاهد ذاته ويسائل من خلالها ذاكرته ومرجعيات العلاقات الإنسانية داخل المجتمع، وبين المصير الجماعي الذي تصبح معه العلاقة بين الشخصيات مرآة لتسليط الضوء على أبعاد علاقات أشمل بين جماعات أوسع.

الفيلم الناطق باللهجة الريفية (إحدى اللهجات المكونة للغة الأمازيغية شمال المغرب) يحكي قصة الطفل "عمار" الذي يقيم رفقة خاله المتسلط في بلدة ريفية، متجرعا سوء المعاملة من جهة خاله وأقرانه، والعزلة والحنين إلى حضن أمه المهاجرة إلى أوروبا مع زوجها الثاني.

في جوار "عمار" تقيم شابة إسبانية، كارمن، صحبة شقيقها، يديران قاعة للسينما. تنمو علاقة صداقة وتعاطف بين الإسبانية والطفل. تفتح له باب السينما، القاعة المظلمة التي تحلق بعمار في سماوات الحلم والدهشة.

"وداعا كارمن" يدفع السينما الأمازيغية في المغرب إلى آفاق نوعية جديدة. لم يعد مجرد إنجاز فيلم ناطق بالأمازيغية نجاحا رمزيا في حد ذاته

الزمن الفرانكاوي
لكن الزمن السياسي يتغير. كارمن وشقيقها اللذان لجآ إلى المغرب في سنوات القمع الفرانكاوي بإسبانيا، سيعودان إلى بلديهما بعد وفاة الجنرال فرانكو، لكن سنوات الجوار والعلاقة مع السينما ومع كارمن ستكون قد غيرت شخصية عمار، الذي أصبح أكثر ثقة ونضجا. سيودع كارمن بحزن، لكن بإقبال أكبر على الحياة.

"وداعا كارمن" يدفع السينما الأمازيغية في المغرب إلى آفاق نوعية جديدة. لم يعد مجرد إنجاز فيلم ناطق بالأمازيغية نجاحا رمزيا في حد ذاته، بالنظر إلى تمثيله منظومة ثقافية ولغوية تنشد التعبير عن ذاتها.

لا يحتمي محمد أمين بنعمراوي بهذه الخصوصية الثقافية، بل يرفع لواء موهبته الفنية عاليا. ذلك أن المشاهد الذي يتابع الفيلم يستغني عن لغة الشخصيات، بل حتى عن الدبلجة المعتمدة، لأن نعومة الصورة وسلاسة الحكي البصري، وحميمية العلاقة التي نسجتها الكاميرا مع المحيط الاجتماعي والمكاني للشخوص، كانت من البلاغة والقوة الإيحائية ما جعل اللغة عنصرا ثانويا في العمل.

الطفل "عمار" كان مدهشا في أدائه، ومعه طاقم تمثيلي محلي، بتجارب في المسرح الأمازيغي، لكن من دون خبرة سينمائية، وهو ما أظهر براعة المخرج الشاب في إدارة ممثليه الذين ساعدتهم مرجعياتهم المحلية ومعايشتهم الواقعية لقصص الوجود الإسباني في سبعينيات القرن الماضي، كجزء من ذاكرة محلية، في الرفع من مصداقية أدائهم.

علاقة كارمن بالطفل عمار تحيل إلى الرصيد المشترك بين المغرب وإسبانيا من الذكريات والتاريخ المتقاطع على أكثر من صعيد. بذلك يكون الفيلم حمال عمق سياسي جدير بالرصد، وصاحب رسالة إلى البلدين بأهمية احتضان الذاكرة المشتركة وتملك صفحات قرون طويلة من التفاعل، وإن كان بعضها أليما وداميا.

درس فيلم "وداعا كارمن" هو أن المحلية ليست عائقا أمام العالمية، بل ربما كانت داعما لها، ولعل حصول بنعمراوي على شهادة تقدير من مهرجان دبي في دورته الأخيرة دليل على ذلك. الدرس الآخر هو أن الحكايات البسيطة ذات العمق الإنساني تقول أشياء أكبر وأكثر نفاذا، من الخطابات الفنية المغرقة في "الشعاراتية".

أدى دور الطفل أمان الله بن الجيلالي، إلى جانب الممثلة الإسبانية باولينا كالفيز، وسعيد المرسي (خال الطفل)، ودنيا لحميدي، وأنس عبد الله، وخوان إستليتش، وغيرهم.

قدم بنعمراوي، الذي درس الإخراج في بلجيكا التي هاجر إليها صغيرا، مجموعة أفلام قصيرة منها "زواج على الشاطئ " 2008، و"كيف كيف" و"سلام وديميتان"، الذي فاز بالجائزة الكبرى لمهرجان مرتيل (2008) وجائزة أحسن سيناريو في المهرجان الوطني للفيلم في دورته العاشرة.

المصدر : الجزيرة