"غراميات شارع الأعشى".. أرواح متمردة وأحلام مجهضة

غلاف رواية "غراميات شارع الأعشى" للسعودية بدرية البشر
undefined
هيثم حسين
 
في روايتها "غراميات شارع الأعشى" تنبش الروائية السعودية بدرية البشر في خفايا مجتمع محافظ، يغلف بعض سلوكيات أبنائه نفاق ظاهر وازدواجية في معايير التعاطي، بحيث يخلق إرباكا وحرجا لديهم وبينهم. تصور ذلك انطلاقا من تفاصيل الحياة ودقائقها في شارع الأعشى بالرياض نهاية السبعينيات ومستهل الثمانينات من القرن العشرين.

ترسم البشر في روايتها -التي نشرتها دار الساقي اللبنانية- جوانب من التطور الاجتماعي والمتغيرات المصاحبة لكل مرحلة، توثق للمفارقات التي كانت تحدثها الأدوات التي وصفت بداية بكونها كماليات ثم لا تلبث أن تغدو ضروريات حياتية.

لا يبقى شارع الأعشى ببساطته وطيبة أهله وتكاتفهم على حاله، بل طاله تغيير أحدث شروخات عميقة بين أبنائه، فكل منهم سار في اتجاه مختلف، وظل الشارع مذكورا بالغراميات والجماليات التي كانت البراءة سمتها الرئيسة

روح ثائرة
تسرد الراوية "عزيزة" حياتها مع أسرتها المكونة من والديها وأربع أخوات وشقيقين في بيتهم الواقع في شارع الأعشى الذي تصفه بأنه صندوق الدنيا، تعود إلى سنوات البراءة والحلم حين كانت بيوت الشارع متلاصقة وكأنها تعكس التكاتف الاجتماعي بين أهلها، ثم تسرب الغرباء إليه، وتعكيرهم صفو العلاقات السائدة بالتزامن مع التغييرات التي اجتاحت أبناءه أنفسهم.

ترغب عزيزة في أن تحظى بحياة مختلفة عن قريناتها وسابقاتها، ذلك أن الحياة المرسومة للمرأة في محيطها لا تعجبها، وهي المولعة بالأفلام  المصرية وتحاول التماهي مع بطلاتها سعاد حسني وفاتن حمامة وكريمة مختار وغيرهن ممن يحرضن لديها روح المرأة الثائرة، لكنها تصطدم بالقيود الكثيرة التي تكبل حركتها وتكبت تفجر ثورتها، وتبقيها أسيرة واقعها بأحكامه المسبقة وأحلامه المجهضة.

يشهد سطح بيت عزيزة أنشطة مختلفة، يكون تارة مسرحا تمارس فيه الفتيات أنشطتهن بعيدا عن أعين المتلصصين، كما قد يكون محطة للقاء العاشقين، كلقاء أختها عواطف بابن الجيران سعد، وتسهيل عزيزة تلك اللقاءات المسترقة، وكأن ذاك السطح كان يشف عن كل ما تخبئه السطوح عادة أو تتكتم عليه، كائنات السطوح تحلم بتحقيق أمانيها التي يحطمها الواقع تاليا.

تتغير أجواء شارع الأعشى بالتدريج، ابتداء بوصول المرأة الغريبة المكافحة "وضحة" مع أبنائها الأربعة، يتكاتف الناس لرعايتها وتأمين مستلزماتها، ابنة بادية تبدو واثقة من نفسها وتعتمد على جهدها، لا تلبث أن تشتغل في السوق، ثم تتطور بعد سنين لتصبح سيدة أعمال وامرأة فعالة تتقن اللعب على الأوتار الحساسة والتوازنات الدقيقة.

يحتل التمرد دورا كبيرا في رواية البشر، ليكون ملح الرواية ومحركها، لكن شخصياتها المتمردة تصطدم بسدود الواقع الكثيرة

صور وفخاخ
تصور الروائية تأثير وسائل الاتصال والإعلام على الناس، تنتقل من وصف حالهم وهم يتفرجون على التلفزيون الأبيض والأسود إلى تفاجئهم بالتلفزيون الملون، ومصاحبتهم للمذياع والإشارة إلى دوره، ثم دخول الهاتف الأرضي إلى البيوت، وإحداثه نوعا من الزلزلة بين الناس من حيث تسهيل التواصل والتحادث، والتمهيد لعلاقات تالية أو التخفيف من حدة التوترات والمشقات التي تحول دون التلاقي.

ترسم كذلك حالة الناس مجتمعين للتفرج على سينما صيفية، حين كانت تنصب شاشة في الهواء الطلق، وتكون الطقوس المرافقة نوعا من الاحتفال الشعبي ومناسبة للسهر والرفقة.

يحضر الأب في الرواية بأكثر من شكل وصورة، فتراه حاضرا بشخصيته المحببة المتفهمة كحالة والد عزيزة المنفتح المحب لأسرته وأبنائه، أو غائبا تاركا أبناءه نهب واقع لا يرحم، كحالة أولاد وضحة الذين يجدون أنفسهم في كنف أمهم التي تنهض بدور الأب الغائب، ويكون غياب الأب مؤثرا في نفسية الأولاد، فقد يدفع إلى لجمهم أو ضياعهم لفترة.

وبين حضور الأب وغيابه صور أخرى مختلفة تتباين فيها تأثيراته، من محفز لأبنائه إلى كابت لهم إلى مقيد لطموحاتهم.

يحتل التمرد دورا كبيرا في عمل البشر السردي، ليكون ملح الرواية ومحركها، لكن شخصياتها المتمردة تصطدم بسدود الواقع الكثيرة، فعزيزة المتمردة على كل ما حولها تتعلق بطبيب مصري وتنوي الهروب معه، تحاول استعادة حياة الممثلة تحية كاريوكا وتغييرها لواقعها، وحين تعدم السبل لاستخراج جواز سفر توافق على الاقتران بصديق والدها الخمسيني "أبو فهد"، لكن حبيبها يجبن ويختلق الصعوبات ويتركها لتخبطها وانكسارها.

من صور التمرد أيضا، زواج مزنة ابنة وضحة من شاب فلسطيني مقيم في الرياض، ومعارضة أهلها ذلك، ثم تنكرهم لها، ومقاطعتها بعد إصرارها وزواجها، لبقى غريبة عن أسرتها ومجتمعها لأنها كسرت التقاليد والأعراف.

ويكون أخوها ضاري أيضا نموذجا رجوليا للتمرد، فيتمرد على سلطة المدرسة والأخ والأم، وفي ظل غياب الأب واختيار أخيه متعب دور البدوي الطيب، يختار ضاري شخصية تتوافق مع الواقع الذي يكون فيه، يجسد اسمه والضراوة التي يشتمل عليها. وتأتي صورة "عطوى"-التي تنشأ في كنف زوج أمها- كتعبير عن حالة الضياع وعدم الاكتراث فتهرب إلى الرياض، لتتعرف إلى "أم جزاع" التي تكفلها، وتعيدها إلى حياتها الطبيعية.

وبالحديث عن السوق وآليات التعامل والمتاجرة فيه، تحضر لدى بدرية البشر وجوه الباعة والتجار المختلفة، فسوق الحريم يحظى بأهمية لافتة، وتأتي الأسواق التالية مكملة للمشهد العام، وفي السوق تنشط التعاملات والمساومات، كما تنشط العلاقات الغرامية تحت غطاء البيع والشراء، يكون في ذلك تبادل للمكيدة والتواطؤ، "عيسى اللعوب مثلا".

للأصوات حضور مختلف وتأثير كبير في مجتمع منغلق تتشاهق فيه الحواجز وتعلو الجدران العازلة بين الناس، متعة التنصت لا تقل تأثيرا عن متعة التلصص في واقع منغلق

التشدد والعنف
لا يبقى شارع الأعشى ببساطته وطيبة أهله وتكاتفهم على حاله، بل طاله تغيير أحدثت شروخات عميقة بين أبنائه، فكل منهم سار في اتجاه مختلف، وظل الشارع مذكورا بالغراميات والجماليات التي كانت البراءة سمتها الرئيسة.

صار العنف تاليا سمة عامة متفشية، وضاعف من التعنيف الذي كان يكبّل النساء والغرباء، فاقم اغتراب الشخصيات عن واقعها وسلبها راحتها. تنتقل أسرة عزيزة إلى حي جديد راقٍ، يعود أخوها من مصر تاركا حبيبته المصرية، يقر بصعوبة كسر أطواق العادات والأعراف، ينتقل مع موجة التشدد المجتاحة إلى الانشغال بالشأن العام بعيدا عن شؤون أسرته وأخواته.

للأصوات حضور مختلف وتأثير كبير في مجتمع منغلق تتشاهق فيه الحواجز وتعلو الجدران العازلة بين الناس، متعة التنصت لا تقل تأثيرا عن متعة التلصص في واقع منغلق، فالصوت المتناهي إلى الآخرين من الشارع قد يحمل إشارة ما، بشارة أو إنذارا.

وصوت ابن الجيران أو نحنحته تختصر كلاما أو تضرب موعدا، ثم صوت الطبيب الذي لا تراه عزيزة بداية يشي لها بصورة معشوقة مفخمة، ومع دخول الهاتف يتحول الصوت إلى عامل متحكم في الخفاء، يخترق البيوت والنفوس، وذلك مع التذكير بالأصوات المتصادية في الشارع، سواء كانت أغنيات أو أناشيد دينية أو تلاوة للقرآن الكريم.

ولا تكتفي الكاتبة بتصوير أصوات مسموعة فقط، بل تراها تتخيل أن للنميمة صوتا صاخبا، وأن للضمير صرخة مدوية، وأن للحب صوته المبحوح المدمر، ناهيك عن أصوات الدواخل الصداحة التي تسير الشخصيات وتتحكم بالمصائر.

تلتقط بدرية البشر بذور ظواهر اجتماعية متنامية لاحقا، كحالة التشدد التي بدأت كحلقة صغيرة، ثم اتسعت دائرتها لتطال الحرم، وتصل إلى درجة احتجاز الحجاج والمصلين فيه في حادثة شهيرة عام 1979 وقع ضحيتها المئات وأريقت فيها دماء كثيرة.

توظف الكاتبة هذه الحادثة للإشارة إلى خطورة الحالة التي بدأت بالتبشير للفكر الجهادي تاليا في الشيشان وأفغانستان، وتخلي كثير من الشباب عن أحلامهم الواقعية واختيارهم طرقا فرضتها أفكار متشددة، ثم تشير إلى مسايرة النظام تلك التوجهات، وإصدار تعليمات تزيد من تشديد الرقابة على المؤسسات.  

المصدر : الجزيرة