محمد شكري وأسلوب كتابة الذات

الروائي المغربي محمد شكري
undefined
كمال الرياحي
 
مثلت تجربة الأديب المغربي محمد شكري الأدبية مرحلة مهمة في تاريخ الأدب العربي المعاصر، إذ أحدثت ما يشبه الرجّة داخل العلاقة القائمة بين الأدب والواقع من ناحية، وخلخلت تقاليد كتابة السيرة الذاتية من ناحية أخرى. ولئن لم تخلق تجربة شكري تيارا أدبيا واضح الملامح، فإنها مثلت ظاهرة خليقة بالبحث وجديرة بأن يوقف عندها.
 
والحقيقة أن تجربة شكري وأسلوبه بدآ يجدان صداهما عند كتاب جيل التسعينيات في كل الوطن العربي، بعد أن استقبلت كتاباته سابقا بكثير من الرفض. ونرجع ذلك الرفض لثقل الإرث الأدبي الذي خلفه طه حسين وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، الذين كانوا بدورهم نتاجا لتاريخ من البلاغة التي أسس لها الأدب العربي الحديث والقديم نثرا وشعرا.

كما أنه لا يمكن أن نغفل عن الأسباب الموضوعية الأخرى لهذا الرفض، وهي أسباب من خارج الأدب ساهمت في تشكيل ماهية ذلك الاستقبال، بينها الطبيعة المحافظة للثقافة العربية الإسلامية من جهة، وتنامي المد القومي من جهة ثانية، إذ عرفت كتابات شكري بجرأتها الاستثنائية ومديحها المفرط للذات واحتفالها بالفردية والفرد، في زمن كانت تطغى عليه الإيديولوجيات الاشتراكية والقومية.

يعتبر محمد شكري أن كتابته لـ"الخبز الحافي" بذلك الأسلوب عائدة لظروف حافة بالكتابة، ويعتقد أنه لو كتب كتابه مرة أخرى لكانت الكتابة مختلفة لأن زمن الكتابة اختلف واختلفت معه ظروف الكتابة أيضا

خصوصية الكتابة
وتستمد التجربة الأدبية تميزها من خلال تنوعها، فقد توزعت على عدد كبير من الأجناس الأدبية من قصة قصيرة ورواية ومذكرات ونصوص مسرحية، كما اكتسبت هذه النصوص ثراءها من قيمة أسئلة متنها وهواجسها الأصيلة، التي التفت فيها شكري إلى الواقع الاجتماعي الذي نشأ فيه، فانعطف عليه يسائل همومه وقضاياه، في أسلوب مختلف يستمد خصوصيته من جرأة الطرح وحداثة اللغة السردية التي كُتب بها.

وعلى الرغم من ثراء هذه المدوّنة وقيمتها فقد لاحظنا تقصيرا في العناية بها نقديا، إذ بدا لنا من خلال ما رصدناه من أطروحات وبحوث جامعية منشغلة بالأدب المغاربي أن حظ أدب محمد شكري من البحث كان يسيرا. فقد ظلّت المكتبة الجامعية العربية والمغاربية تحديدا خالية من بحث ينشغل بتجربة شكري الأدبية في شموليتها، إذ اقتصرت البحوث على نصوص متفرّقة من مدوّنته وقع تناولها بوصفها جزءا من موضوع يهتم بموضوع معيّن أو بسؤال فنّي أو أجناسي محدّد.

والمتأمل في تاريخ هذا الفن الأدبي سيكتشف أن كل سيرة ذاتية هي نموذج في حد ذاته، فكل محاولة لضبط السيرة الذاتية وإلباسها لبوسا واحدا باءت بالفشل، لأنها أصلا كما يقول جان ستاروبنسكي "ليست لونا أدبيا قائما على قواعد وأصول".

إن كل تجربة في كتابة السيرة الذاتية لا تمثل إلاّ نفسها، فليس من وجه شبه بين اعترافات جان جاك روسو واعترافات سان أوغيستان، ولا بين أسلوب كتابة شاتوبريان وأسلوب أندري جيد أو جان جينيه أو هنري ميللر. ونفس الملاحظة تنسحب على السير الذاتية العربية، فالكتابة السيرية عند طه حسين لا تمت بصلة إلى كتابة جبرا إبراهيم جبرا السيرية أو كتابة حنا مينة أو فدوى طوقان، وهي أبعد ما تكون عن  الكتابة عند محمد شكري. يقول جان ستاروبنسكي "فلا يحق القول بأن هناك أسلوبا معينا أو ديباجة خاصة تتصل بالترجمة الذاتية، فليس في هذا المضمار أسلوب ملزم أو ديباجة ملزمة".

والسيرة الذاتية هي المجال الأدبي الأكثر استجابة للتميز الشخصي وإظهار التفرد الأسلوبي. ومن ثم فالاختلاف الأسلوبي في كتابة السيرة الذاتية دليل على أصالتها وارتباطها بالذات الكاتبة وتأكيدا لتفردها. غير أن هذا لا ينفي أبدا أن كاتب السيرة الذاتية قد يأخذ -مثل غيره من الكتاب- من أسلوب غيره، خاصة إذا كان كاتب السيرة الذاتية من الأدباء، لأنه بفعل تراكم قراءاته لسير غيره من الكتاب والمشاهير تجده في البداية أميل إلى أسلوب واحد ممن فُتن بسيرتهم، ولكنه مع ذلك سيبقى مطالبا بتذويت تلك الاستفادة عندما يضفي عليها نفسه الشخصي وخصوصية تجربته والكتابة.

ويعتبر محمد شكري كتابته لـ"الخبز الحافي" بذلك الأسلوب عائدة لظروف حافة بالكتابة، ويعتقد أنه لو كتب كتابه مرة أخرى لكانت الكتابة مختلفة لأن زمن الكتابة اختلف واختلفت معه ظروف الكتابة أيضا، وهو بذلك يتّفق مع المنظّر ستاروبنكي، الذي أقرّ في دراسته للأسلوب في السيرة الذاتية بأن "الأسلوب مرهون باللحظة الحاضرة لفعل الكتابة، وهو وليد ذلك القدر من الحرية الذي توفّره اللغة والمواضعات الأدبية وطريقة انتفاع المتكلم بهذه الحرية. وأصح مرجع للأسلوب هو زمن الكتابة، و"ذات" المؤلف الراهنة".

كان شكري يمتلك ذاكرة شفوية اكتسبها من سنوات الأمية العشرين، فكان يكتب نصوصه في ذاكرته قبل أن يحولها على الورق، وهذا ما يفسّر عدم مراجعته لنصوصه في بداية الأمر

فعل احتجاج
ومحمد شكري زمن كتابة الخبز الحافي لم يكن يفكّر إلا في نشر كتابه الأول، لذلك لم يبحث طويلا عن أسلوب جديد، فاختار الشكل الروائي أسلوبا للكتابة. وهو يؤكد في عديد من اللقاءات والشهادات أن "الأسلوب هو الرّجل" وأن لكل كاتب أسلوبه الخاص الذي يميّزه من غيره.

كما يعتبر الكتابة الأدبية والإبداعية تأتي كفعل احتجاج ضد العادي والمألوف واليومي والآني، ومن ثم فهي تقطع مع كل ما هو جاهز بما في ذلك الأسلوب وهي حينئذ "مغامرة بشرية من أجل تسكين القلق اليومي والوجودي والميتافيزيقي" والكتابة عنده صنفان لا ثالث لهما: جيدة ورديئة كتبها رجل أم امرأة، ولا يؤمن بتذكير الكتابة ولا بتأنيثها ويقرن عملية اكتساب الأسلوب الخاص بإتقان اللغة وقدرة الكاتب على تطويعها من جهة، وبتنوع قراءات الكاتب من جهة ثانية.

لقد قدّم محمد شكري اللغة العربية في تجليات جديدة وطوّعها لتشتغل وفق فكر جديد لكاتب مختلف آت إليها من قاع المجتمع وغاز إياها من مجاهل الأمية وفضاءات التهميش، لغة وصفها الناقد إبراهيم الخطيب بـ"الحسية العنيفة" التي "استمدت نصّها من معايشة تلك الأحداث معايشة آنية أو عبر ذاكرة حريصة على عدم نسيان أي شيء".

لم تكن اللغة والأسلوب اللذان كتب بهما "الخبز الحافي" سوى اختيار من محمد شكري لكتابة سيرة ذاتية مختلفة، فلئن كان صحيحا أن محمد شكري قد أقدم على كتابتها عن طريق الصدفة وفي وقت قياسي إذ لم يستغرق زمن الكتابة -كما ذكر- سوى شهرين، فإنه وهو يخوض تجربة الكتابة كان يستند إلى ذاكرة قرائية كبيرة لفن السيرة الذاتية وفن الرواية معا.

ومن ثم فسرعة الكتابة لم تكن تعني التسرع، فقد كان شكري يمتلك ذاكرة  شفوية اكتسبها من سنوات الأمية العشرين، فكان يكتب نصوصه في ذاكرته قبل أن يحولها إلى الورق، وهذا ما يفسّر عدم مراجعته لنصوصه في بداية الأمر، لأن المراجعة قد حصلت في الذاكرة قبل أن تنتقل إلى الورق. وهذا ما يعنيه شكري بأنه يطبخ نصوصه جيدا في الذاكرة قبل كتابتها. ألم يرد على الكاتب الأميركي بول بولز الذي احتج على توريطه في إبرام عقد حول ترجمة نص غير موجود: "كانت سيرة حياتي مطبوخة جيدا في ذهني يا سينيور بولز".
______________
روائي وكاتب تونسي

المصدر : الجزيرة