شعار قسم مدونات

حراك الجامعات الأميركية.. إرهاصات ثورة أم زوبعة فنجان؟

الاحتجاجات اجتاحت جامعات كبيرة ومرموقة كهارفرد وكولومبيا (وكالة الأناضول)

مثل كرة الثلج، تتفاقم التوترات في الجامعات الأميركية يوما بعد يوم، مع توسع الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين والمناهضة لما تقوم به إسرائيل من جرائم إبادة ضد المدنيين في غزة منذ أكثر من ستة أشهر.

تشهد مدن مثل لوس أنجلس، ونيويورك، وبوسطن مظاهرات واعتصامات ضد الدعم العسكري والتقني والمالي الأميركي لإسرائيل. هذه الاحتجاجات اجتاحت جامعات كبيرة ومرموقة كهارفرد، ويال، وكولومبيا، مع تدخل شرطة مكافحة الشغب لقمع وتفريق الطلاب بالقوة بحجة طلب الإدارات الجامعية. بل تطور الأمر أكثر ليصل إلى حد تهديد رئيس مجلس النواب مايك جونسون بتعبئة الحرس الوطني لمواجهة ما وصفه بـ "فيروس معاداة السامية" في الحرم الجامعي.

وفي الوقت الذي تتصاعد فيه الاحتجاجات الطلابية في الولايات المتحدة، تثار تساؤلات جوهرية حول مدى تأثير هذه الحركات على النسيج السياسي الأميركي وإمكانية أن تمثل بداية لتحول جذري يشابه تلك التحولات التي شهدتها فرنسا في مايو (1968)، أو المكسيك في يوليو (1968)، أو حتى تلك الاحتجاجات التي اندلعت في المستعمرات الأميركية في القرن الثامن عشر، والتي أدت إلى الثورة الأميركية (1775-1783) واستقلالها عن الإمبراطورية البريطانية آن ذاك.

الولايات المتحدة اليوم تختلف كثيرا عما كانت عليه المستعمرات البريطانية في القرن الثامن عشر، فهي تمتلك نظاما ديمقراطيا قويا يسمح بتعبير الشعب عن آرائه من خلال الانتخابات والتصويت والعمليات القضائية والتظاهر السلمي.

ماذا يقول التاريخ؟

تاريخيا، كانت الثورة الأميركية نتاجا لمجموعة من الأحداث والسياسات التي فرضتها بريطانيا على المستعمرات، مثل قانون الطوابع (1765) وقوانين التاونشند (1767)، التي اعتبرت تعديا على الحقوق والحريات الاقتصادية للسكان المستعمرين.

هذه السياسات قوبلت بمقاومة شديدة، ورفض واحتجاجات متواصلة، أدت إلى تصاعد التوترات لتنفجر في حدث حاسم مثل "حفلة شاي بوسطن" (1773)، وهو ما أدى بدوره إلى سلسلة من القوانين العقابية من البرلمان البريطاني والتي عرفت بالقوانين "اللا سلمية".

كل هذه الأحداث ساهمت في تحفيز السكان المستعمرين على التمرد والعصيان والمطالبة بالاستقلال حتى اندلعت الثورة.

في الوقت الراهن، تظهر الاحتجاجات الطلابية في الولايات المتحدة – المنددة بدعم الحكومة الأميركية لإسرائيل في حربها على غزة – مدى الفجوة بين السياسات الحكومية وقناعات قطاع كبير من الشباب والطلاب الأميركيين. هذه الاحتجاجات تعيد للأذهان مواقف مشابهة شهدتها الولايات المتحدة في الستينيات والسبعينيات خلال احتجاجات ضد حرب فيتنام، حيث كان الشباب الأميركي ينظر إلى الحرب كتجسيد للظلم وتجاوز الأخلاقيات التي يفترض أن تمثلها الولايات المتحدة.

ومع كل ذلك، يظل من غير المرجح أن تتطور هذه الاحتجاجات لتصل إلى ثورة تطيح بالنظام الحزبي في الولايات المتحدة، أو حتى إلى لي ذراع الحكومة لتغير موقفها الداعم لإسرائيل.

الولايات المتحدة اليوم تختلف كثيرا عما كانت عليه المستعمرات البريطانية في القرن الثامن عشر، فهي تمتلك نظاما ديمقراطيا قويا يسمح بتعبير الشعب عن آرائه من خلال الانتخابات والتصويت والعمليات القضائية والتظاهر السلمي.

النظام السياسي والقضائي يوفران مسارات واضحة للتغيير، والمؤسسات الديمقراطية متجذرة بعمق في النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد. وهذا ما لم تكن عليه المستعمرات البريطانية في أميركا، ولم تكن عليه حال المكسيك في عهد غوستافو دياز، ولا حتى فرنسا في الفترة الأولى من حكم شارل ديغول.

يضاف إلى ذلك، الوضع السياسي والاجتماعي الحالي الذي يشهد مستويات متفاوتة من الاستياء ضد سياسات الحزبين في أميركا. حركات مثل (Occupy Wall Street) و(Black Lives Matter) تعبر عن معارضة شعبية كبيرة لجوانب من النظام السياسي والاقتصادي، ولكنها لم تتطور إلى ثورات شاملة ضد النظام بأكمله، بل إنها لم تغير من الحال الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. النظام السياسي في الولايات المتحدة مصمم ليكون مرنا ومستقرا في ذات الوقت من خلال توازنات ونظم تفصل بين السلطات، ونظام انتخابي على قدر كبير من الشفافية والتماسك يعزز تداول السلطة -وإن كان بين الحزبين الرئيسيين فقط- مما يجعل من الصعب جدا الإطاحة بالنظام بأكمله عبر الاحتجاج الشعبي فقط.

ماذا يقول الاقتصاد؟

أما من الناحية الاقتصادية، فرغم الحقائق التي نشرتها مراكز مثل (Economic Policy Institute) و (Pew Research Center) ما بين عامي 2014 و2020 تشير إلى تزايد الفوارق الاقتصادية في الولايات المتحدة بين السكان، وتركز الثروة بشكل كبير في أيدي نسبة قليلة من الأثرياء، إلا أن هذا الأمر هو ما ميز دائما النظام الرأسمالي العالمي الذي تشكل الولايات المتحدة رأس حربته.

ولا توجد مؤشرات حقيقية -حسب مراكز الدراسات- تدل على أن الأميركيين المتضررين من أزمات تضخم أسعار العقار وانحسار أسواق العمل وغلاء المعيشة يصلون إلى أعداد كبيرة قد تحرك الشارع الأميركي ضد الحكومات.

لكن هذا لا يعني رضا المواطن الأميركي عن أداء حكومته، فبحسب استطلاعات رأي نشرها معهد (Gallup) العام الماضي، هناك انخفاض مستمر في الثقة بالحكومة الفيدرالية منذ سبعينيات القرن المنصرم، حيث يشعر كثير من الأميركيين بأن السياسيين لا يمثلون مصالحهم الحقيقية.

من الممكن أن تؤدي الاحتجاجات الطلابية والاعتراضات على السياسة الخارجية الأميركية إلى تغييرات في بعض جوانب هذه السياسات أو حتى تعزيز النقاش حول حرية التعبير والحقوق المدنية، ولكن الوصول إلى مرحلة الثورة التي تطيح بالنظام الحزبي يظل أمرا بعيد المنال في ظل الظروف الحالية.

ماذا يقول الفكر السياسي؟

مفكرون مثل هوارد زِن صاحب كتاب "العصيان والديموقراطية"، أشاروا إلى تاريخ الولايات المتحدة من الاحتجاج الشعبي والمقاومة المدنية كعوامل تساهم في التغيير السياسي دون الحاجة إلى ثورات عنيفة.

ويحلل زن حلات التوتر بين القانون والعدالة، موضحا أن القوانين ليست دائما عادلة وأن العصيان المدني يمكن أن يكون ضروريا لتحدي القوانين غير العادلة.

أما عن سؤال لماذا تنجح بعض الحركات الاحتجاجية وتتحول إلى ثورات في أوقات معينة وبلدان معينة، بينما تفشل حركات احتجاجية أخرى في ظروف قد تبدوا مشابهة؟ يجيبنا مفكرون أمثال سيدني تارو وتشارلز تيلي ممن كتبوا في نظرية "الفرص السياسية"؛ فهما يريان أن الثورات لا تحدث إلا عندما تتوافر "فرص سياسية" للتغيير. ما معنا هذا؟

كي تتحول الحراكات الشعبية إلى ثورات ناجحة تطيح بنظم سياسية أو تحقق مساعيها من الحراك، يجب أن تتوافر لها ظروف معينة، تلخصها نظرية "الفرص السياسية" في التالي: وجود انقسامات داخل النخب الحاكمة، تغيرات كبيرة في السياسات الحكومية أو الأزمات الاقتصادية التي تسبب عدم استقرار يمكن للحركات استغلاله.

ضف إلى ذلك الدعم الشعبي والدولي، وتقلص فعالية الأجهزة القمعية، أو وجود أحداث كارثية تمهد لا يمكن أن تغطيها الأنظمة. كل هذه تعد عوامل حاسمة تسهم في إضعاف النظام وتزيد من قدرة الحراك الشعبي على التحدي بفاعلية.

وفي الولايات المتحدة، يمكن القول إن النظام الانتخابي والقانوني يوفران طرقا أكثر مرونة للتغيير وللمحاسبة -فضيحة وتر غيت مثال- تجعل من تحول الحركات الاحتجاجية إلى ثورات أقل احتمالا.

على أي حال، من الممكن أن تؤدي الاحتجاجات الطلابية والاعتراضات على السياسة الخارجية الأميركية إلى تغييرات في بعض جوانب هذه السياسات أو حتى تعزيز النقاش حول حرية التعبير والحقوق المدنية، ولكن الوصول إلى مرحلة الثورة التي تطيح بالنظام الحزبي يظل أمرا بعيد المنال في ظل الظروف الحالية.

الاحتجاجات تعبر عن تحول في الرأي العام، هذا صحيح، وربما تكون محفزا لتغييرات تدريجية في السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط، لكنها لن تؤدي إلى إحداث ثورة بالمعنى التقليدي للكلمة، أو حتى تغيير الموقف السياسي للحزبين تجاه إسرائيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.