تحدثت في المقال السابق عن خصوصية جنين ودورها في مقاومة حملة نابليون والاحتلال الإنجليزي، وهناك أمر آخر أرى ألا أمر عليه مرور الكرام، لأنه أسهم كثيرا في تعزيز خصوصية جنين ودورها المقاوم.
انتصار عربي نادر على أرض جنين
دخلت الجيوش العربية السبعة فلسطين في 1948، وهي أقل عددا وعدة وتدريبا وجهوزية من العصابات الصهيونية التي تتمتع أيضا بكم معلومات استخباراتية لا يقارن بحجمه الهائل بما لدى الجيوش العربية، يضاف إلى ذلك ضعف الإرادة السياسية لدى الأنظمة العربية الرسمية للتصدي الفعلي لتلك العصابات المدربة المدعومة من قوى الغرب والشرق، أوثقها ارتهانها للسياسات المرسومة من القوى الاستعمارية، فكان من الطبيعي أن تتغلب العصابات المنظمة على جيوش هذا حالها، ويضاف إلى ذلك أن الشعب الفلسطيني كان محروما وفق خطة بريطانية محكمة، من اقتناء الأسلحة إلا بشق الأنفس وبأسعار كان ثمنها غالبا ذهب (مصاغ) الزوجات، وكان أي فلسطيني يضبط ومعه سلاح بل أحيانا رصاصة واحدة، يشنق بعد محكمة عسكرية سريعة!
ولكن في خضم تلك النكبة والظلام برز شعاع نور ما زال حاضرا في نفوس الأجيال المتعاقبة، خاصة أن له شيئا ماديا يذكر به.
ففي الرابع من يونيو/حزيران 1948 وقعت معركة حامية الوطيس بين قوات من الجيش العراقي برفقة متطوعين فلسطينيين وبتعاون من أهل جنين ومحيطها، أدت إلى فك حصار فرضته العصابات الصهيونية على المدينة ومحيطها منذ نهاية مايو/أيار، وأوقع العراقيون والفلسطينيون خسائر فادحة في صفوف تلك القوات، مما أدى إلى تقهقرها، وتخليص المدينة وقراها من الالتحاق بأخواتها من القرى والبلدات التي أحكم الصهاينة قبضتهم عليها (ثلثي مساحة فلسطين الانتدابية).
وعلى بعد بضعة كيلومترات من مدينة جنين وعلى مقربة من بلدة قباطية في منطقة (جنزور) تم دفن جثامين 44 شهيدا عراقيا، حيث سيصبح اسم المنطقة (مثلث الشهداء) بسبب وجود هذه القبور.
القبور التي ضمت جثامين الشهداء العراقيين ظلت كأنها رواية وتاريخ ناطق، تحدث عن تفصيلاته كثير ممن عاشوا تلك المرحلة ثم البنين والحفدة
وممن شارك في تلك المعركة الضابط العراقي (محمود شيت خطاب) وهو عسكري وشاعر ومؤرخ فذّ لا يشق له غبار في مجال (العسكرية والحروب الإسلامية) وقد نظم
قصيدة جاء فيها:
أجنينُ إنك قد شهدتِ جهادنا
وعلمتِ كيفَ تساقطتْ قتلانا
ورأيتِ معركةً يفوزُ بنصرها
جيشُ العراقِ وتُهزمُ الهاجانا
أجنينُ يا بلدَ الكرامِ تجلدي
ما ماتَ ثأرٌ ضرّجتْهُ دمانا
أجنينُ لا ننسى البطولةَ حيةً
لبنيكِ حتى نرتدي الأكفانا
إني لأشهدُ أن أهلك كافحوا
غزوَ اليهودِ وصارعوا العُدوانا
هذا تأكيد من الضابط العراقي المميز على دور أهل جنين في المعركة، ومساندتهم لإخوانهم العراقيين، في التصدي للعدوان الصهيوني، وهذه المعركة خلقت ارتباطا عاطفيا خاصا مميزا بين جنين والعراق، مع كل التغيرات السياسية التي عصفت ببلاد الرافدين (المعركة وقعت في العهد الملكي في بغداد).
ومن جهة أخرى موقع المقبرة، الذي يخلق حالة بصرية خاصة للداخلين إلى جنين والخارجين منها على طريق نابلس، جعلها مميزة بقصص وشخصيات البطولة والشهادة التي تصبغ جنين وتاريخها القريب، فكما قلنا استشهد الشيخ عز الدين القسام أواخر 1935 في أحراش بلدة "يعبد" قرب مدينة جنين.
القبور التي ضمت جثامين الشهداء العراقيين ظلت كأنها رواية وتاريخ ناطق، تحدث عن تفصيلاته كثير ممن عاشوا تلك المرحلة ثم البنين والحفدة، غير ما سطرته الكتب والتقارير والقصص الصحفية والمرئيات، وما تزال عن تلك المعركة.
تخيل نفسك تدخل جنين ولا تعرف شيئا عن كل ما ذكر، وقبل وصولها تجد دبابة مدفعها ظاهر أمام مقبرة، سيأخذك فضولك للتأمل والسؤال، وعند معرفة الإجابة، ستعلم أنك في مجال جغرافي مشبع ومفعم بكل ما له علاقة بالتضحية والشجاعة والشهادة!
دبابة أردنية
وزيادة في شحن معاني الفداء والبطولة وترسخ الشهادة كقيمة ومنزلة مهمة وكبيرة في المنطقة، دارت معركة عند احتلال جنين في نكبة يونيو/حزيران 1967 بين الضابط الأردني (محمد الحميدان) الذي كان قائدا لدبابة قاومت حتى قصفها جيش الاحتلال بالنابالم فاستشهد، رافضا التراجع أو الاستسلام، وقد وضعت الدبابة أمام مقبرة شهداء الجيش العراقي المذكورة آنفا.
وتخيل نفسك تدخل جنين ولا تعرف شيئا عن كل ما ذكر، وقبل وصولها تجد دبابة مدفعها ظاهر أمام مقبرة، سيأخذك فضولك للتأمل والسؤال، وعند معرفة الإجابة، ستعلم أنك في مجال جغرافي مشبع ومفعم بكل ما له علاقة بالتضحية والشجاعة والشهادة!
وكان جيش الاحتلال -كل فترة- يقوم بدهن هذه الدبابة، لأنه يعتبرها علامة انتصار له، وقد حملتها قوات الاحتلال إلى مكان ما في الداخل الفلسطيني في 1995، بعيد تسليم المنطقة للسلطة الفلسطينية في 1948 ولكن بقيت مقبرة الشهداء العراقيين، التي شهدت مؤخرا ترميما، ويتوسطها نصب تذكاري، معلما من أهم معالم جنين.
وعشائر التركمان القادمين من منطقة (عرب التركمان) التي تضم بلدات وتجمعات مثل المنسي والغبيات ولد العوادين، أيضا لجأ كثير منهم إلى جنين والمخيم ومناطق أخرى قريبة.
اللاجئون ومخيم جنين في هذه البقعة
اللاجئون في مخيم جنين قدموا من 57 تجمعا في فلسطين المحتلة سنة 1948 أيضا ليسوا مجردين من قصص بطولات تضاف إلى الرغبة الكامنة في النفوس في التخلص من النكبة وتبعاتها.
فمن قرية المزار القريبة من جنين جاء لاجئون من عائلة السعدي، التي قبل النكبة بعقد برز منها الشيخ (فرحان السعدي) رفيق درب الشيخ عز الدين القسام، الذي كان له مع الإنجليز صولات وجولات، ليقبض عليه ويشنق وهو الثمانيني الصائم في شهر رمضان.
وهناك من مناطق قريبة في سهل بيسان جاء لاجئون أيضا من زرعين التي شهدت معارك طاحنة ودمرت معظم منازلها، وقرى أخرى مثل قومية ونورس.
والقرى المذكورة لم تكن بعيدة عن أواصر العلاقات المختلفة مع جنين المدينة قبل النكبة.
الجزء الثاني من اللاجئين في مخيم ومدينة جنين كانوا أقل احتكاكا ورابطة بجنين قبل النكبة، لأن مركزهم مدينة حيفا الساحلية، وهم أهالي منطقة الروحة (والدي وجدي منها) التي تضم عشرات القرى والتجمعات الفلسطينية (أم الشوف وخبيزة وصبارين والسنديانة وقنير والكفرين وغيرها) ومنطقة الكرمل (حيفا) وقد اشتهر "مثلث الرعب الفلسطيني" بمقارعة العصابات الصهيونية قبل احتلاله وقد ضم قرى وبلدات (جبع واجزم وعين غزال) وكثير من أهالي اجزم وعين غزال من لاجئي جنين ومخيمها وبعضهم حطت رحال اللجوء بهم في سورية والعراق!
وعشائر التركمان القادمين من منطقة (عرب التركمان) التي تضم بلدات وتجمعات مثل المنسي والغبيات ولد العوادين، أيضا لجأ كثير منهم إلى جنين والمخيم ومناطق أخرى قريبة.
أي أن اللاجئين في جنين ومخيمها يحملون إرثا خصبا مصبوغا برغبة في التحرر والثأر لاقتلاعهم من بيوتهم وأراضيهم، وتشريدهم وتشتيت عوائلهم، وقتل العديد منهم، مع قصص بطولات وتصدٍّ للعصابات الصهيونية وقبلها الاحتلال الإنجليزي.
البذرة في تربة جاهزة!
هذه المدينة الصغيرة (جنين) يحل على أرضها ومحيطها هذا العدد من اللاجئين بكل ما ذكرنا عن تاريخها، وبكل ما لهؤلاء من خصائص ومزايا، تعزز شيئا مؤكدا: الجاهزية للمقاومة دوما، وهو ما كان ولا يزال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.