شعار قسم مدونات

هل كانت الثورة الفرنسية ماسونية؟ (21)

الثورة الفرنسية.. رسالة فرنسا التي كفرت بها واعتنقها العالم
دافعت الماسونية في فرنسا عن فلسفة التنوير التي تبنتها الثورة الفرنسية عام 1789، بهدف استعادة حقوق الإنسان الطبيعية (مواقع التواصل)

تحت عنوان "هؤلاء الماسونيون الذين غيّروا العالم"، ذكر المحفل الماسوني الوطني الكبير في باريس في موقعه على الإنترنت قائمة من الشخصيات البارزة التي نردد أسماءها من حين لآخر دون أن ننتبه لعلاقتها بالماسونية والدور الذي كانت تقوم به تحت مظلتها، ومن بين هذه الأسماء: الموسيقار النمساوي موتسارت، والقائد العسكري الفرنسي ماركيز دي لا فايت، والشاعر الألماني غوته، والكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير، والرئيس الأميركي المؤسس جورج واشنطن، والشاعر الفرنسي بودلير، والعالم الفيلسوف البريطاني إسحاق نيوتن، والقائد الفنزويلي سيمون بوليفار، والرئيس الأميركي ثيودور روزفلت، والرئيس الأميركي هاري ترومان، والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل. وتكشف هذه الشخصيات عن مستوى النفوذ السياسي والعلمي والثقافي الذي تتمتع به الحركة الماسونية في العالم منذ القرن السابع عشر.

استفادت الحركة الماسونية من تجربتها في بريطانيا للسيطرة على الحراك الفكري والعلمي واختراق المنظومة السياسية في فرنسا، متبعة الخطوات الرئيسية نفسها التي اتبعتها في بريطانيا، كاحتضان العلماء وإنشاء الأكاديمية الملكية، وإعداد وطباعة الموسوعة، وإنشاء المحفل الكبير، ونشر المحافل الماسونية

اختراق الماسونية لفرنسا

استفادت الحركة الماسونية من تجربتها في بريطانيا للسيطرة على الحراك الفكري والعلمي واختراق المنظومة السياسية، لتكرر ذات التجربة في فرنسا، متبعة الخطوات الرئيسية نفسها كاحتضان العلماء وإنشاء الأكاديمية الملكية، وإعداد وطباعة الموسوعة، وإنشاء المحفل الكبير، ونشر المحافل الماسونية.

تذكر الدكتورة مادالينا كالانس أستاذة الاقتصاد وإدارة الأعمال في جامعة "إياسي" برومانيا، في دراستها تحت عنوان "العقل والحرية والعلم.. مساهمة الماسونية في عصر التنوير"، أن الماسونية اخترقت فرنسا قادمة من بريطانيا بعد إزاحة الملك جيمس ستيوارت الثاني (1633-1701) عن السلطة هناك، ولجوئه إلى ابن عمه الملك لويس الرابع عشر (1638-1715) في فرنسا، حيث وجد الملك لويس في الأفكار الماسونية التي جاءت مع ابن عمه الملك البريطاني المخلوع جيمس ستيوارت مجموعة مفيدة من الأطروحات للمجتمع والعلم، وكان من نتائج ذلك أن أسس الأكاديمية الملكية للعلوم في باريس عام 1666، بعد 6 سنوات من تأسيس الجمعية الملكية في لندن.

في عام 1714، انتُخب الفيلسوف والمهندس ورجل الدين والماسوني جون ثيوفيلوس ديساجولييه (1683-1744) للجمعية الملكية في لندن مساعدا لرئيسها إسحق نيوتن، وكان ديساجولييه بريطانيًا من أصل فرنسي، لجأ أبوه القس جان ديساجولييه إلى إنجلترا بعد أن نفته الحكومة الفرنسية بسبب اعتناقه المذهب البروتستانتي. ساهم ديساجولييه بدور كبير في تأسيس المحفل الماسوني الكبير في لندن عام 1720، وتولّى منصب ثالث رئيس أعظم للمحفل، وآمن بمبادئ جون لوك ونيوتن حول التسامح الديني وحرية الفكر والمنهج التجريبي. وخلال بضع سنوات، أصبح ديساجولييه المحاضر النيوتوني (نسبة إلى نيوتن) البارز في دوائر المحاضرات الخاصة والعامة، حيث أظهر وشرح الميكانيكا، والهيدروليكا، والبصريات، حيث أدرك ديساجولييه أن تسويق العلوم، والهندسة على وجه الخصوص، يمكن أن يعالج الاهتمامات العملية ويوفر حلولًا عملية.

أعجب ديساجولييه بالمؤسسات البريطانية التي قطعت شوطا في التنظيم والمأسسة بعد الحرب الأهلية في القرن السابع عشر التي أطاحت بالملك تشارلز الأول لصالح ابنه الملك تشارلز الثاني الذي كان ماسونيا ووقع على تأسيس الجمعية الملكية في لندن عام 1660م التي كانت تحت سيطرة الحركة الماسونية حينها، وقد أدى هذا الإعجاب بديساجولييه إلى قرار نقل التجربة إلى فرنسا.

في هذه الفترة انضم فولتيير إلى ديدرو ودالمبرت لإعداد "الموسوعة" على غرار الموسوعة البريطانية، وتعاون فيها أكثر من 125 مفكرا أوروبيا، لتساهم في تحدّي ثوابت القرون السابقة، وتدافع عن المعرفة القائمة على العقل والعلم، وتمهد الطريق فكريا إلى الاضطرابات التي سبقت الثورة الفرنسية في 1789، والتي استلهمت وقودها من الثورتين الإنجليزية والأميركية.

في عام 1776، تأسس محفل الأخوات التسع الماسوني (Loge des Neuf Soeurs) في باريس، وكانت له أهمية كبيرة في الأوساط الثقافية الفرنسية، كما كان له تأثير في تنظيم الدعم الفرنسي للثورة الأميركية، حيث كان بنجامين فرانكلين سفير الولايات المتحدة في باريس حينها أحد مؤسسي المحفل ورئيسه الأعظم في الفترة (1779-1781).

وكما وقفت الماسونية وراء إعداد وطباعة ونشر الموسوعة البريطانية، وقفت وراء "الموسوعة" التي احتوى غلافها على رسم توضيحي يظهر فيه "لوسيفر"، أو ما يعرف بالملاك المتمرد أو حامل النور، يقف إلى جانب الرموز الماسونية الأخرى المربع والبوصلة والنور الذي يشع من خلفه. وتعتبر كلمة النور مهمة في النظام الماسوني، ويطلق على الماسونيين اسم "أبناء النور"، ومنه جاء مصطلح التنوير الذي يدل على استيعاب الماسونية للمعرفة على قدم المساواة مع الموسوعيين، حيث كان الماسونيون دعاة للنور وأنصارا للحركة العقلانية والعلمية، على حد قول الدكتورة مادالينا كالانس، التي تذكر أن الفيلسوف الفرنسي الماسوني البارون تشارلز لويس دي مونتسكيو (1689-1775) أوصى بالحد من سلطة الملك المطلقة وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات، وأن البرلمان هو الوسيط الذي يمثّل الأمة، والمسؤول عن سنّ القوانين، وأن القانون يخضع للتحليل العلمي، فهو مثل العقل البشري الذي يحكم جميع الناس. ودافع مونتسكيو عن النظام الاجتماعي واعتبر أنه يجب أن يقوم على قوانين الطبيعة، وأن الحرية حق طبيعي. وتقول الدكتورة كالانس إن فولتير وديدرو وآخرين من فلاسفة القرن الثامن عشر وجدوا في الماسونية مساعدا لهم على نشر مذاهبهم على نطاق واسع.

كانت الحركة الماسونية ضالعة في الثورة الفرنسية، وكان شعار الماسونية يتصدر بيانها الأول، وكان أكثر من 300 عضو من أعضاء الاجتماع الأول للجمعية التأسيسية في باريس في أغسطس/آب 1789 ماسونيين

الماسونية والثورة الفرنسية

تذكر الباحثة كينيث لويزيل في كتابها "حب أخوي" الصادر عام 2014، أن الحركة الماسونية كان لها في باريس والمقاطعات التي حولها أكثر من ألف محفل في الفترة ما بين 1750-1793، وأن 30% من هذه المحافل أنشئ قبيل الثورة الفرنسية بقليل، حيث استطاعت الماسونية جذب النخبة والطبقة المتوسطة لأفكارها الجديدة التي تلامس واقع الحياة التي يعيشونها، وتطرح حلولا لها، وتشير إلى أن الحال كان مشابها لما كان عليه في إنجلترا، حيث كانت المحافل الماسونية مندمجة في المشهد الثقافي والعلمي. وقد ساعدت ترجمة كتب الفلاسفة الإنجليز فرانسيس بيكون وتوماس هوبز وجون لوك إلى اللغة الفرنسية، في نشر أفكارهم بين التنويريين الفرنسيين الذين كان معظمهم على صلة بالماسونية.

وكما فعلت في بريطانيا، دافعت الماسونية في فرنسا عن فلسفة التنوير التي تبنتها الثورة الفرنسية عام 1789، بهدف استعادة حقوق الإنسان الطبيعية (التي منحتها له الطبيعة)، وفي العام نفسه أصدرت قيادة الثورة ما يعرف بـ"إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، وهي الحقوق غير القابلة للتصرف، كالحرية والملكية الخاصة وأمن المواطن ورفض الظلم ومقاومة الاضطهاد، وغير ذلك مما يعتبر ركائز الحركة الليبرالية.

وكانت المفاجأة الكبيرة التي كشفت عن ضلوع الحركة الماسونية في الثورة الفرنسية، عندما صدر البيان وعليه شعار الماسونية الأبرز الذي يحتوي على المثلث المحاط بدائرة من النور وفي داخله العين التي تشير إلى "الخالق" المتجلي في وجوده المطلق، على الرغم من مزاعم الماسونية بأنها لا تتدخل في السياسة والدين. وكانت المفاجأة الكبرى حينما انعقد الاجتماع الأول للجمعية التأسيسية في باريس في أغسطس/آب 1789، وكان أكثر من 300 عضو من أعضائها ماسونيين. وبهذا أصبحت الماسونية الفرنسية بمثابة الوعي العالمي الذي يجسّد الأبعاد الأساسية للتقدم الإنساني، المتمثلة في: الحرية والمساواة والأخوية، على حد قول الدكتورة كالانس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.