شعار قسم مدونات

كيف هيمنت الماسونية على حركة التنوير في بريطانيا؟ (19)

مدونات - الماسونية
سبب اهتمام الحركة الماسونية بالجمعية الملكية، أو لجوئها لتأسيسها، يتجلى عندما نعرف أن إجمالي دخل الجمعية للعام 20212022 بلغ حوالي 125 مليون جنيه إسترليني (مواقع التواصل الاجتماعي)

عرضنا في المقالات السابقة الخاصة بعصر التنوير 3 فلاسفة من رواد القرنين الـ17 والـ18، وهم فرنسيس بيكون وجون لوك وإسحاق نيوتن، الذين اعتبرهم الرئيس الأميركي الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون أعظم 3 رجال على الإطلاق، ويعتبرهم بعض المؤرخين أنبياء عصر التنوير، وبسبب تركيزنا على موضوع الأخلاق، لم نذكر حينها أن ثلاثتهم كانوا من أعمدة الماسونية، وأن الرئيس جيفرسون كان ماسونيا تتلمذ على أفكارهم. الفلاسفة الثلاثة ولدوا في المملكة المتحدة، في الفترة التي شهدت ظهور وتأسيس الحركة الماسونية، التي انطلقت رسميا من هناك عام 1717 بتأسيس المحفل الماسوني الأعظم، المحفل الأكبر على مستوى العالم.

كانت الجمعية الملكية بالنسبة للحركة الماسونية بوابة الاختراق والتأثير للمجتمع البريطاني، حيث سارعت الخطى بعد تأسيسها لتنشر محافلها في جميع المقاطعات البريطانية ومنها إلى سائر الدول الغربية، وكان انتشارها متزامنا مع انتشار فروع الجمعية الملكية داخليا وخارجيا

أعمدة التنوير الماسونية الكبرى

تأسست "جمعية لندن الملكية لتحسين المعارف الطبيعية" في لندن عام 1660، برعاية الملك تشارلز الثاني الذي تم الإشارة إليه في ميثاقها الثاني باعتباره المؤسس. وتُعرف الجمعية اختصارا بالجمعية الملكية، وهي أقدم جمعية أكاديمية في العالم تعمل حتى اليوم. ورغم أن تأسيس الحركة الماسونية في بريطانيا جاء لاحقا لتأسيس الجمعية الملكية، فإن الحركة الماسونية كانت قد نشطت بشكل ملحوظ في القرن الـ16، وبالذات في أسكتلندا وأيرلندا، حيث يؤرخ البعض لهذه الفترة ببداية نشأة الماسونية، إلا أن العديد من الوثائق والدراسات تذهب بنشأة الماسونية إلى أبعد من ذلك بكثير، إلى زمن الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية. وقد استفادت الحركة الماسونية في بريطانيا كثيرا من تأسيس الجمعية الملكية، ولم تكن أيدي الماسونية بعيدا عن هذا التأسيس.

تأسست الجمعية الملكية على أيدي مجموعة من العلماء والفلاسفة الذين تأثروا بأفكار الفيلسوف الماسوني فرانسيس بيكون (1561-1626) في كتابه "أتلانتا الجديدة" الذي يتحدث فيه عن جزيرة خيالية نموذجية، أهلها مؤمنون، يعيشون عليها في سلام، ينعمون بمنجزات بحوث علمائهم في شتى المجالات الزراعية والصناعية، دون أن يسمحوا للعالم الخارجي بأن يلوّثهم ماديا أو معنويا. وأهل الجزيرة عباقرة في العلم إلى حد تخليق فصائل جديدة في عالم النبات، ولديهم أفران حرارية تعادل طاقة الشمس، وينابيع خاصة يسمونها "عيون الجنة"، مياهها تطيل الأعمار وتعالج جميع الأمراض.

ويتحدث في الكتاب عن بيت سليمان، الرمز الماسوني البارز، ومصدر للعديد من الرموز الماسونية الأخرى التي تكرر ذكرها في الكتاب، إضافة إلى الأختام والرسومات الغامضة المستمدة من الماسونية، التي تؤكد علاقته بالحركة الماسونية. فقد عاش بيكون في الفترة التي نشطت فيها الحركة الماسونية في أسكتلندا في القرن الـ16، وتأثر بمبادئهم وأفكارهم التي تجلّت كذلك في كتابه "أوغانون الجديدة" الذي دافع فيه عن فصل الدين عن الدولة، وعن إحلال العلم التجريبي مكان الغيبيات، ودعا إلى تحرير العقول من الأصنام المتحكمة فيها قبل البدء في اكتساب المعرفة، ويقصد بالأصنام الموجودات العقلية السابقة التي تتحكم في العقل وتوجهه إلى الطريق الخاطئ.

أما الفيلسوف جون لوك (1632-1704) الذي كان عضوا في الجمعية الملكية، فتقول مادالينا كالانس أستاذة الاقتصاد وإدارة الأعمال في جامعة "إياسي" برومانيا، في دراستها تحت عنوان "العقل والحرية والعلم.. مساهمة الماسونية في عصر التنوير" أن جون لوك الشخصية الماسونية التنويرية الثانية، الذي كان لأفكاره الثورية ودفاعه عن الحرية الفردية والمِلكية الخاصة دور كبير في تحريك الثورات الإنجليزية والفرنسية والأميركية، والتي كانت بصمة الماسونية واضحة فيها جميعا، كما كان له تأثير كبير على العديد من الفلاسفة الفرنسيين أمثال جان جاك روسو وفولتير، وعلى الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون الذي تأثر بأفكاره الليبرالية في إعداد إعلان الاستقلال، الذي نص على أن جميع الرجال متساوون، منحهم خالقهم حقوقا متساوية غير قابلة للتصرف، كالحياة والحرية والسعي نحو السعادة.

وقد ذكرت كالانس أن عددا من وثائق السيرة الذاتية لجون لوك يشير إلى صلته بالماسونية، حيث صرّح في عدّة رسائل باهتمامه بدراسة الوثائق القديمة للأخوية الماسونية، وبرغبته في المشاركة في لقاء ماسوني في زيارة له إلى لندن.

كان العالم والفيلسوف إسحاق نيوتن (1643-1727) من المؤسسين الأوائل للجمعية الملكية، وعضوا فيها منذ تأسيسها، وترأسها عام 1703، واستمر في منصبه حتى وفاته، وقد بلغ عدد أعضائها عام 1739 حوالي 300 عضو، أكثر من 100 من بينهم أعضاء في الحركة الماسونية، التي كانت تحرص باستمرار على دعوة أعضاء الجمعية الملكية للإلقاء في محافلها، في الوقت الذي كانت فيه جامعتا أكسفورد وكامبريدج ترفضان ذلك. وكان العديد من هذه المحاضرات مصحوبا بمظاهرات علمية. وقد كانت المحافل الماسونية المنصة الوحيدة التي شجعت نيوتن ومعاصريه على التقدم العلمي.

تشير كالانس إلى أن أحد المبادئ الـ25 الواردة في الدستور الماسوني ينص على أن أي ماسوني يؤكد وجود (الخالق ككائن أسمى يمكن تحديده بحرية) يُدعى المهندس العظيم للكون لأنه يحاول فك رموز قوانين الطبيعة من أجل فهم أفضل لحكمة الله، وهذا يفسر اهتمام نيوتن في سنواته الأخيرة بتوحيد الله، وبالهندسة المقدسة المستخدمة في "معبد سليمان"، الرمز الماسوني، حيث توصّل عن طريق الفلسفة التأملية إلى أن الله جعل النبي سليمان أعظم فيلسوف في العالم.

وفي كتابه "التسلسل الزمني للممالك القديمة" المنشور عام 1727، وضع نيوتن مخططا لجانب من معبد سليمان. وقد خصّص فصلا في الكتاب عن ملاحظاته حول المعبد مستمدا معلوماته من سفر الملوك الأول، معتقدا أن النبي سليمان صمم المعبد بتوجيه إلهي. كما اعتقد أنه لا بد أن الكتاب المقدس يحتوي على حكمة مقدسة مخفيّة وفق شفرة معقّدة إذا تم حلها سنتمكن من فهم كيفية عمل الطبيعة.

وتذكر كالانس أنه تم تسجيل تسلل نيوتن إلى الدوائر الماسونية في موسوعة الماسونية، حيث كان مقربا من "توماس ديساغيولارز" (1721-1780) القائد في سلاح المدفعية الملكية، عضو الجمعية الملكية والرئيس الأعظم للمحفل الماسوني الجديد لما يعرف بالماسونية التأملية. وكان حوالي 10 من أعضاء المحفل أعضاء في الجمعية الملكية. وبفضل هذه العلاقة بين نيوتن وديساغيولارز تقاسم نادي الجمعية الملكية إحدى غرفه مع المحفل، واستفادت الجمعية من بعض فروع المحفل كمراكز إرشادية للجمعية.

الجمعية الملكية بالنسبة للحركة الماسونية بوابة الاختراق والتأثير للمجتمع البريطاني، حيث سارعت الخطى بعد تأسيسها لتنتشر محافلها في جميع المقاطعات البريطانية ومنها إلى سائر الدول الغربية

الانتشار الكبير

لقد كان معظم أعضاء الجمعية الملكية (التنويريين) ماسونيين، وكانوا جميعا منفتحين على الآخرين، ومستعدين لاستيعاب ومعالجة المعلومات غير التقليدية من أجل توليد العلم، حيث لم يكن انتماء العضو للتنظيمات السرية المناهضة للكنيسة يمثل مشكلة داخل الأخوية الماسونية، التي كانت دعوتها عالمية ومتسامحة.

كانت المحافل الماسونية أولى الهيئات التي لها دساتير تسمح بالتصويت الفردي والانتخاب، مشكّلة ثقافة سياسية، وشكلا جديدا للمجتمع المدني، ساهم لاحقا في إعادة تشكيل أنظمة الحكم في الدول الغربية، فقد كانت الشراكة بين الماسونيين الذين يتسمون بالولاء للحركة والثقة الأخوية فيما بينهم، كانت المفتاح لكثير من الأفكار والمشروعات التنويرية، على غرار الموسوعة البريطانية (Encyclopedia Britannica) التي تم إعدادها بواسطة الأعضاء الماسونيين في الحركة الماسونية من أجل تجسيد روح التنوير في الضمير والثقافة البريطانية.

وتمت طباعة الموسوعة عن طريق الناشر وصاحب المطبعة، الماسوني الأسكتلندي كولين ماكفاركوار (1744-1793)، وقام بتحريرها الماسوني وعضو الجمعية الملكية، "وليام سميلي" (1740-1795) الأسكتلندي الناشر والفيلسوف وعضو الجمعية الملكية في إدنبره، ومؤسس النادي النيوتيني (نسبة إلى إسحاق نيوتن)، وقد كتب في الموسوعة 15 مقالا. صدرت الطبعة الأولى من الموسوعة عام 1768، وبعد الطبعة الثالثة درّت عليهم الموسوعة أرباحا طائلة.

كانت الجمعية الملكية بالنسبة للحركة الماسونية بوابة الاختراق والتأثير للمجتمع البريطاني، حيث سارعت الخطى بعد تأسيسها لتنتشر محافلها في جميع المقاطعات البريطانية ومنها إلى سائر الدول الغربية، وكان انتشارها متزامنا مع انتشار فروع الجمعية الملكية داخليا وخارجيا.

ونستطيع أن نفهم بصورة أوضح سبب اهتمام الحركة الماسونية بالجمعية الملكية، أو لجوئها لتأسيسها، يتجلى عندما نعرف أن إجمالي دخل الجمعية للعام 2021\2022 بلغ حوالي 125 مليون جنيه إسترليني، معظمه من المنح التي تقدمها المؤسسات لصالح الأنشطة العلمية الخيرية، منها 106 ملايين لصالح تعزيز التميّز في العلوم، و10.5 ملايين لدعم التعاون العلمي الدولي، و8 ملايين لإبراز أهمية العلم للجميع. وقد بلغ عدد المنتسبين للجمعية 1700 زميل وعضو، حصل 85 منهم على جائزة نوبل. ويتم سنويا اختيار حوالي 52 زميلا بريطانيا و10 أعضاء أجانب، ممن يتقدمون للانتساب إلى الجمعية.

وإذا كان ثلث أعضاء الجمعية عام 1739 ماسونيين، فلك أن تتخيل بعد كل هذا الانتشار كم أصبح حجمهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.