شعار قسم مدونات

طريق العدمية السريع.. إنجاب حسب العقيدة الجندرية

blogs عائلة

يبقى الحمْل والإنجاب عُقدةً مستعصية بالنسبة للعقيدة الجندرية، ذلك أنّ "البيولوجي" يفرض في هذه العقدة أدواراً اجتماعية لا مناص منها؛ مهما اتّسعت الخيالات الخصبة لاحتمالات "بديلة" عن التكاثر الذي عرفته البشرية عبر تاريخها. يُلقي هذا المقال نظرة على عقدة الحمل والإنجاب بالنسبة للعقيدة الجندرية وكيف تتنزّل المحفوظات الجندرية في واقع التطبيق التكاثري وما تترتّب عليه من وشائج القرابة والأواصر الاجتماعية، تواصلاً مع المقال السابق الذي يفحص هذه القضية: أيديولوجيا جندرية: أنثى أم ذكر أم اختيارات أخرى؟

 

ما العمل مع عقدة الحمل والإنجاب؟

مال الخطاب الجندري إلى محاولة عزل العلاقة الجنسية التي يتمثّلها نموذجياً عن أيِّ أدوار اجتماعية، فتصير مطلوبةً للذّات الفردية وأغراضها الحسِّية المستقلّة عن مطلب الإنجاب والتكاثر مثلاً الذي يُفترَض بموجبه توزيعُ أدوار ومسؤوليّات، مع ملاحظة النزعة المناهضة لأدوار الحمل والإنجاب التي استقرّ عليها البشر عبر تاريخهم. حفّزت مذاهب فمنستية (فيمنية) ومعها خطابات جندريّة محاولات الاستغناء عن "النوع البيولوجي الآخر"، وهو ما يتحقّق حسب هذه الخطابات أو في واقع الممارسات القائمة والمتعاظمة في ظلالها؛ من خلال كسب الاعتراف والتقدير لصيغ أخرى من العلاقة والاقتران أو لخيار الانفراد الجنسي الذي يستقلّ فيه الفرد بذاته عمّن سواه، وهي في عمومها صيغ تُفاخِر بالاكتفاء بما هي عليه بمعزل عن الزوجية أو الآصرة "الغيْرية" Hetero كما يُصطلح عليها. يبدو مفهوماً، بالتالي، أن تحظى الوعود التي تنثرها أنظمة "التكاثر البديلة" بحماسة فائقة لدى بعض أصوليِّي العقيدة الجندرية وأصوليّاتها أو حاملي محفوظاتها والحاملات، بما في ذلك "بنوك النُّطَف" وخيارات "تأجير الأرحام" وزراعتها وكذلك تصوّرات الحمل المخبري وطموحات "حمْل الذكور" ومعامل الاستنساخ وغيرها، مع ميْل جارف إلى التوسّع في تبنِّي مواليد تمخّضت عنهم علاقة "تقليدية" منبوذة جندرياً.

 

استسهل المجتمع حلّ أحجية الصفة الاجتماعية للرضيعة أوما لويز وأواصر قرابتها؛ بالاعتماد التلقائي على المدوّنة التشريعية وما تنصّ عليه الأوراق الرسمية؛ فإنّه يكون قد سلّم ضمناً بتقويض رواية النظام الاجتماعي

تُقدّم هذه في جملتها على أنها مسالك مُتاحة في الحاضر و/أو المستقبل لـ"حيازة الأطفال" بصفة مستقلّة عن "الأدوار النمطية". لا يرى القوم في هذا الصّدد مدعاةً لِوَعظ أخلاقي عن حقِّ كلِّ طفل في الحظوة بالأمومة والأبوّة في كنف أسرة على نحو سويّ، فالمنطق "السويّ" تمّ إسقاطُه ابتداءً واعتباره متحيِّزاً لمفاهيم ثقافية/ تاريخية متغيِّرة، أمّا الأمومة والأبوّة والرعاية الأسرية فهي أدوار اجتماعية بالأحرى، حسب السرديّة ذاتها، وليست الخيار المتفرِّد للعلاقة ضمن آصرة "الأسرة" التي جرى تهشيم دلالتها المفاهيمية الثابتة أيضاً. كما أنّ نشأة طفل تحت ظلّ "أب وأب" أو "أمّ وأمّ" مثلاً قد يحتمل في الخطاب الجندري أنهما "أب" و"أمّ" مثلاً بموجب التوصيف الانطباعي الذاتيّ لهذه "الهويّة" التصوّرية والأدوار والسلوكيات التَمثّلية المترتبة عليها. وسيكون على الطفل الذي يُبصِر النور في ظلِّهما أن يستوعب هذا أيضاً؛ بمقتضي القول التأسيسي بأنّ الاجتماع البشري هو الذي يمنح المفاهيم ويحدّد الأدوار!. إنّ ما يبدو يسيراً مُختزَلاً في النصوص التأسيسية والمواثيق المرجعية قد يجرّ تفاعلات هائلة من بعدُ ويفتح أبواباً سيعجز المتحمِّسون للمحفوظات الجندرية أنفسهم عن سدِّها؛ إن أدركوا عواقبها ببصيرة متجاوزة للحظة تاريخية مشبّعة بالحماسة لمقولاتهم المسيّجة بشعارات قيمية مجيدة.

 

تطبيق جندري: عندما تلد المرأة حفيدتها

تستنفر الأحجية التالية أي ذهن يحاول استيعابها، وقد تتجاوز ما تحتمله خيالاتٌ خصبة من توقّعات مُسبقة، لكنها وقعت بحذافيرها بمقتضى العقيدة الجندرية عندما تتنزّل في الواقع الإنساني. تدور الأحجية حول أشخاص خمسة؛ هم سيسل وماثيو وإليوت وليّا ثمّ الطفلة أوما لويز التي أبصرت النور في مدينة أوماها بولاية نبراسكا الأمريكية في مارس/ آذار 2019.

 

سيسل امرأة أمريكية في الحادية والستين من عمرها، رقدت وقتها في غرفة الولادة بانتظار "مولودتها" الجديدة بعد ثلاثة عقود من آخر وضع لها، لكنّ أوما لويز ليست ابنتها تماماً، فالوالدة تقوم في هذا المقام بوظيفة الحمل والإنجاب فقط نيابة عن ابنها إليوت (29 عاماً) الذي لا يملك رحماً بحكم "نوعه البيولوجي" حسب تصنيف العقيدة الجندرية. أمّا الأب المانح للنطفة فهو ماثيو (32 عاماً)، وهو "شريك حياة" ابنها إليوت الذي يجوز الافتراض بأنه بمثابة الأم في آصرة "زوجية" أو قد يكون أباً ثانياً أو كليهما معاً حسب التأويلات المحتملة.

 

في هذه الآصرة شخص آخر لا غنى عنه، لأنّ "الأمّ" الستينية لا تفرز بويضات مؤهّلة لإنجاز عملية الإخصاب، فتمّ اللجوء إلى ليّا، التي هي أخت إليوت، أي ابنة الأمّ التي وضعت المولودة، لتمكين الابن إليوت من لعب دور الزّوْج في علاقة الاقتران مع رجل آخر هو ماثيو. صارت الأم شريكة ابنتها في الأمومة في عملية انبثاق كائن بشري جديد تشترك فيه أمّان "بيولوجيّتان" علاوة على "أم مفترضة" أو "أب ثانٍ" في علاقة اقتران "مثلية" كما تسمّى في العقيدة الجندرية؛ وإن لم يكن لهذا الأب المزعوم أي دور في ما جرى؛ سوى الفرجة والترقّب والانفعال العاطفي في الصور المنشورة على الملأ كأنه طرف حقيقي في العملية أسوة بالآباء "البيولوجيين".

 

تمّ التخصيب مخبرياً خارج الرّحِم مع بويضة الأخت ليّا، ثم استزراعها في رحم "الأم" سيسل التي وضعت مولودة هي في الواقع ابنتها وابنة بنتها أيضاً، وتبقى المولودة حفيدتها في عرف قانون الولاية الأمريكية الذي يُشَرعِن هذه العملية وما تخلّلها من توزيع أدوار غير مسبوقة في التاريخ. لا دوْر لإليوت، ابن المرأة الستينية، في هذه العملية سوى أنه انتظر المولودة التي لم يشترك في أي خطوة من خطوات إنجابها، لكنّ الرضيعة أوما لويز التي أبصرت النور سيكون عليها أن تستوعب بعد سنوات من حياتها مَن تكون تحديداً، ومَن يكون كلّ هؤلاء الذين يحيطون بها ويمسكون بيديها، فهل يكون إليوت "أباها الثاني" أو "أمّها الذّكر" أم "أخاها" من جهة الأم البيولوجية التي حملتها ووضعتها؛ أم هو خالها باعتبار الأم البيولوجية التي انبثقت من بويْضتها؛ أم يكون أليوت هو هذا كلّه معاً؟

 

من القسط الإقرار بأنّ كلّ ما جرى في هذه العملية المتشابكة منسجم تماماً مع العقيدة الجندرية ولم يخرج عنها قيد أنملة، وقد يعدّه الأيديولوجيون الجندريون انتصاراَ تاريخياً لمقولاتهم يعلنون به نهاية التاريخ. لا سبيل للإنكار على أيّ من أطراف هذه العملية إن سلّم القوم بالمقولات التأسيسية لهذه العقيدة الصارمة تسليماً؛ وأظهروا الإخلاص العميق لها والالتزام بمقتضياتها؛ فالنتائج مرتبطة بمقدِّماتها. ويبقى السؤال الجاهز للتسويغ: "لِمَ لا؟"؛ أي ما الذي يمنع أيّاً من هذه الخطوات حسب العقيدة الجندرية بمحفوظاتها "المقدّسة"؛ خاصة إن وجدت حركات اجتماعية تنادي بـ"الحقّ في الإنجاب" وجرت العملية تحت فضاء جاهز لشرعنتها وارتضت أطراف العملية ذلك؟

 

من المعضلات التي يُحاصِر فيها الخطاب الجندري ذاتَه أنّ نَفْيَ "الخيار الأوحد" في أواصر الاقتران والزواج والتشكّل الأُسَري؛ لا يقضي بالاقتصار على "الخيارات" الأخرى المعيّنة التي تقع المناداة بها على الملأ في تطبيقات الخطاب الجندري

يتّضح من نتيجة هذا التطبيق أنّ حالة واحدة فقط من الاقتران والولادة حسب العقيدة الجندرية انتهت إلى تفكيك شامل تقريباً لنواة النظام الاجتماعي في أواصره التأسيسية، وأفضت إلى عدمية جلية في مفاهيم الزواج والأسرة والوالدية والأمومة وأواصر القرابة. من نتائج هذا التطبيق الجندري أن خرجت طفلة بريئة إلى عالمنا لتحمل صفة أخت "أبيها أو أمّها" (مذكر بيولوجي حسب الجندرية)، أمّا "أبوها أو أمّها" ذاته فهو "خالها" أيضاً، وهي تبقى "حفيدة" أمّها التي حملتها ووضعتها بخلاف أمّها التي انبثقت عن بويْضتها وهذا بخلاف "أمّها" التي/ الذي هي "أبوها الثاني" في علاقة الاقتران التي تنتسب إليها المولودة حسب القانون المعمول به وفق التعليمات الجندرية في تَنَزُّلها التشريعي.

 

خلاصة الموقف أنّ أوما لويز يُحتمَل أن تكون أي شيء تقريباً في الأواصر الاجتماعية؛ كما يُحتمَل أن تكون بلا أواصر محدّدة في الحقيقة. وقد تدرك هذه الرضيعة الحائرة يوماً ما = التي لا نعلم من تكون مرضعتها أيضاً – أنها في الواقع أخت "أبيها الثاني" أو "أمّها" المذكّر تبعاً لصفة المرأة التي حملتها ووضعتها؛ وإن كانت في المنظور البيولوجي تبقى أيضاً ابنة أخت أبيها الثاني/ أمّها بحكم انبثاقها عن البويضة، وأنها أخت أمّها التي منحتها البويضة، وأنّها بثلاث أمّهات تقريباً؛ أولاها هي الجدّة وثانيتها هي العمّة وثالثتها هي الأب الذي ليس أباً ولا أمّاً إلاّ على الورق وفي أذهان معبّأة بالمحفوظات الجندرية.

 

ما كان لإنجاب أوما لويز على هذا النحو أن يقع لولا منشأ المعضلة القائمة على تشظية الإنسان وافتراض صدع عميق في تكوينه وكيانه؛ بين "النوع البيولوجي" و"النوع الاجتماعي"، بما أتاح الفرصة للثاني بأن يتّخذ من الأول مادة استعمالية لتصوّرات ونزعات ورغبات لا تلوي على شيء. جاءت التقارير المنشورة عن هذه الحالة معزّزة بصور كاشفة عن مدى الجموح الرغائبي الذي لا يرى عائقاً دونه إلاّ حدود الممكن الطبي وتخوم وعوده السخيّة، فتطوّعت أمّ إليوت وأخته للقيام بالمهمة البيولوجية بصفة مجرّدة عن أي معنى؛ لمجرّد تحقيق رغبة رجليْن في الحمل والإنجاب، فكان ما كان. ليس من شأن الرغبات الجامحة أن تتوقّف يوماً عند حدّ، وقد تحمل أصحابها على توظيف الفتوح المخبرية والطبية المتجددة لتحقيق أمنيات متجاوزة لأي تصوّر في قابلات الأيّام. وللمشرِّعين أن ينشغلوا بافتراض نزاعات قضائية قد تنشأ من هذه التشابكات؛ مثل مآل الدعاوى التي قد ترفعها إحدى الأمّهات للظفر بحضانة المولودة لأسباب عاطفية و/أو مادية، أو غير ذلك من العواقب المحيِّرة.

 

إنّ استسهل المجتمع حلّ أحجية الصفة الاجتماعية للرضيعة أوما لويز وأواصر قرابتها؛ بالاعتماد التلقائي على المدوّنة التشريعية وما تنصّ عليه الأوراق الرسمية؛ فإنّه يكون قد سلّم ضمناً بتقويض رواية النظام الاجتماعي القائم حتى حينه وأسقط عنها الدلالات المستقرّة عبر التاريخ البشري؛ بما يعني أنها ثورة انقلابية لم يتحسّب لها في لحظة الانجراف مع مطالبات الشرعنة. وإنْ احتمل الأمر قراءات متعددة واجتهادات شخصية وتأويلات متفرِّقة؛ سيفقد الانتظام الاجتماعي بالأحرى معناه المتوافق عليه فتصير أواصره نسبية وفاقدة لانضباط التعريف الإجماعي؛ بما يترتّب على ذلك من أدوار ومسؤوليّات؛ إلاّ بمقتضى ما يقرِّره المشرِّعون بأهوائهم "المتغيِّرة اجتماعياً" في كل موسم.

 

مسيرة جنائزية نحو العدمية

من المعضلات التي يُحاصِر فيها الخطاب الجندري ذاتَه أنّ نَفْيَ "الخيار الأوحد" في أواصر الاقتران والزواج والتشكّل الأُسَري؛ لا يقضي بالاقتصار على "الخيارات" الأخرى المعيّنة التي تقع المناداة بها على الملأ في تطبيقات الخطاب الجندري ومطالبات جماعاته الناشطة في لحظة تاريخية معيّنة، وهو ما سيضغط على الهيئات التشريعية بصفة مستمرّة لاستيعاب ذلك. فكسر المعيار "النمطيّ" يؤسِّس لإمكانية الاستزادة فوق كلّ الخيارات الأخرى المقترحة على الأنظمة التشريعية حول العالم؛ لأنّ المنطق ذاته من شأنه أن يُملي انفتاح "الخيارات" بلا تقييد على أي "توجّه جنسي" يطرأ، طالما أنّ "أطراف العلاقة" هي التي تقرِّر ما "تميل إليه" وفق مرتكزات الخطاب الأيديولوجي الذي يرفع شعارات من قبيل "حقّ الزوّاج لكل أشكال الحبّ"، بما في ذلك، مثلاً، "خيارات" الاقتران غير الثنائي بصيغ جماعية لا ضابط عددياً لها.

 

يقضي هذا الانفلات بإسالة المفاهيم على آفاق لا نهائية من "الخيارات" والاحتمالات التي لم تكن واردة في الحسبان. هكذا تُفضي النسبيّة في منتهاها إلى عدمية إنْ فُكّ قيْدُ المعيارِ المحدّد بمنطق لا يمكن احتكار إسقاطاته لخيارات معيّنة دون غيرها. يتدهور هذا الانفلات المفهومي إلى دركات لا قاع لها، مثل شرعنة اقتران المحارم، بينما لا تمانع بعض المداولات الجندرية المتطرفة في القبول بالبيدوفيليا (رذيلة اشتهاء الأطفال) ذاتها طالما أنها تبقى هي الأخرى عند قومها "ميْلاً" أو "توجّهاً" جنسياً قابلاً للشرعنة بالمتوالية ذاتها!. لم تنته الجولة، التي يواصل خوض غمارها مقال لاحق مع العقيدة الجندرية وأيديولوجيّتها وطابعها الصراعي وطرائق تنزيلها وتطبيقها وعواقب الانصياع لمحفوظاتها المعولمة في الآجل أو العاجل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.