شعار قسم مدونات

حزنتُ ولمْ أجدْ أحدًا كرسولِ الله

مدونات - رجل
عندما انتصر المسلمون في غزوة حنين بعدما كادوا أن يُهزموا، وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلب الغنائم على المؤلفة قلوبهم. هذه القِسمة قام بها النبي الكريم بغية في أن يُحببَ هؤلاء في الإسلام، حتى وإن كانوا من الفارين في المعركة. ولكن المشكلة التي حدثت أن كثيرين لم يفقهوا هذا، وأوجد ذلك في نفوسهم حتى قال واحد من الأنصار بعدما لم يكن لهم نصيب منها قليل أو كثير:
(لقي والله رسول الله قومه) ولكنهم قوم تعلموا أن الكتمان يولد في النفس شرًا لا ينطفئ، ولذلك قام سعد بن عبادة رضي الله عنه إلى رسول الله وقال له:
يا رسول الله، إن هذا الحيَّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم!
قال: فيم؟
قال: فيم كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء.
قال رسول الله: فأين أنت من ذلك يا سعد؟
قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي.
 
فقال رسول الله: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني.
فخرج سعد ونادى في قومه حتى لم يبق أحد من الأنصار إلا اجتمع له، ثم ذهب إلى رسول الله وقال: يا رسول الله.. اجتمع لك الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم.
فخرج رسول الله، فقام فيهم خاطبًا، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال:
"يا معشر الأنصار.. ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟
قالوا: بلى
قال: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟
 
قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المن لله ورسوله.
قال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: جئتنا طريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفًا فأمنَّاك، ومخذولاً فنصرناك..
فقالوا: المن لله ورسوله.
فقال: أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعلة من الدنيا، تألفت بها قومًا أسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلامّ! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟
فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت مرأً من الأنصار.
اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى القوم حتى أخضبوا لحاهم. وقالوا: رضينا بالله ربًا، ورسوله قسمًا.
ثم انصرف.. وتفرقوا.
  undefined
 
كلما حزنت وتجدد في قلبي جرح الخذلان، كلما تذكرت هذا الجزء من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. أتساءل في ضعف: لماذا لا يتخلقُ الناسِ بخلق رسول الله؟ لماذا لا يشعرون بحزننا عندما نحاول أن نبديه، إننا والله ما أردنا إلا أن نسمع كلمة طيبة، كلمة واحدة نشعر من خلالها أن ثمة من يهتم بأمرنا، من يحاول أن يفرغَ شحنات اليأس من قلوبنا. فنضطر إلى الكتمان، وآفة الحزن الكتمان، ذلك لأن النفس ما هي إلا وعاء له حد لا يستطيع أن يستوعب أكثر منه، فإذا استمر المرءُ في كتمان أحزانه دون محاولة التنفيس، سيفيض الوعاء حتى يُغرقه، وذلك ما أتمثله دومًا في ما قاله امرؤ القيس:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولَهُ .. عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي
  
هذا بيت يمثِّل الليالي الثقيلة بكل ما فيها من أحاسيس، ليلة ظلماء نختفي فيها دون أن يشعر بنا أحد، تتابع الذكريات الحزينة علينا في هذا الليل وتضربنا واحدة تلو الأخرى، حتى نكاد أن نهلك مما في النفس من حزن شديد. وفي هذه القصة التي ذكرت، عبرتان آمنت بهما:
الأولى: أنَّ المرء إذا وقع في نفسه شيء، فعليه أن يواجه المسبب -أيًّ كان شخصه- حتى يُنفِّسَ عن نفسه ما لاقت.
 
الثانية: أنَّهُ لا أحدَ كرسول الله. لأنهُ صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بالنفس وطباعها، لما رأى في أصحابه حزنًا، لم يقل لهم أنا رسول الله ولم يعاتبهم، ولكنه قدّر فيهم الحزن الذي وجدوه، قدّر فيهم الطبيعة البشرية التي إذا لم تجد مقابل لما قدمت، تحزن، فواساهم بكلماته العطرة، وبحكمته البليغة، قال لهم إنه مغنهم، إنه يحبهم ويحب كل من يحبهم، وإنه ما فعل هذا إلا لأنه يثق فيهم.
وفي هذه القصة قدّم رسول الله أعظمَ مثالٍ في ردِّ الحزن، الكلمة الطيبة.
إن الكلمات الطيبة في لحظات الانكسار هي الجبيرة التي تُضمدُ الجراح، إذا لم تُمنح في وقتها، كُسر في القلبِ جدار لا يقوم. وفي زماننا كثير من القلوب تُكسر كل يوم، يعاني الناس من حزن دفين خافوا أن يبوحوا به، ليس خوفًا من المواجهة نفسها، ففي المواجهة حب، ولكنه خوف تكرار التجربة الأولى، تجربة الخذلان.
 
دائمًا ما تُكسر براءة القلب بعد الخذلان الأول، تلك اللحظة التي سقطنا فيها في فخ الحزن، ولما انتظرنا فقط المواساة، لم نجدها. في هذه المرة ماتت في القلب الثقة ربما، وتولدت فيه ندبة لا يخفيها أي أسف.
ولذلك أقول في نفسي كلما فُصد الجُرح الأول بعد حزن جديد: لا تحزن، فليس فينا أحدٌ كرسول الله، وليس لنا في هذا الدنيا إلا الله.

وختامًا أقول:

 
ناديتُ ربي حينَ ضقتُ من الدُنا
والدمعُ جمرٌ في فؤادي لم يطبْ

حاولتُ والكلماتُ خانتْ حاجتي
وتلعثمتُ كلُّ الحروفِ من التَّعبْ!

فوجدتُ نفسي قائلاً مُتألِـمًا
أنتَ العليمُ بحالِ عبدِكَ فاستجبْ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.