إنها قصة ذكريات هروبنا الجماعي.. ذكرياتِموتنا وحياتنا.. ذكريات جرأتنا وجبننا، طفولتنا وشبابنا.. انتصاراتنا وانتكاساتنا.. ملهاتنا ومأساتنا، جمالنا وقبحنا.. من حسن الحظ أن المأساة عندما تتحول لقصة ما بعدها، تأخذ مأخذ الملهاة، عندما تتجمل قراءتها في ثوب الكلمات، والصور الصياغية، والتعابير، وجمال الخيال المستوحى من الواقع أو الواقع المستنبط من الخيال..
دخلت في تجربتي الثانية بعد "الهروب إلى الحياة" من حكاية أيام من ذاكرة جندي عراقي التي صدرت عام 2003، إلى "هروب نحو القمة" من مذكرات كردية في زمن منسي: "هروب نحو القمة" روايتي التي صدرت مؤخرا وتناولتها أيدي القراء ووقائع الندوات وأقلام النقاد.
فأنا ما بعد "هروب نحو القمة" لست الذي قبلها، فأنا الـ"هذا" يفكر في كل شيء، كيف يمكن تحويله إلى الكلمات.. حتى هذه الشاشة التي أمامي تختلف عما قبل "هروب نحو القمة"، فهي ما بعدها مولّدة الفِكر والخاطرة بل الحياة، طالما بقت أصابعي تلعب على لوحة مفاتيحها، وتتراقص على أحرفها المتناثرة، لتصنع منها الكلمات بل الأفكار والقصص، وبداية انطلاق مشاريع روائية جديدة..
هكذا تتوسع الرواية مع ذاكرة أوميد في يوم واحد زمانيا ومكانيا، زمانيا لتشمل تاريخ مائة سنة من القضية الكردية، ومكانيا لتشمل كردستان ككردستان ليس كشمال العراق ولا جنوب شرق تركيا ولا شمال شرق سوريا ولا شمال غرب إيران، فعندما يُنهي الهاربون الأراضي العراقية وتبدأ الأراضي التركية على خط متعرج رسمته اتفاقية سايكس بيكو يسمى بالحدود، عندها كردستان لا تنتهي ولا تبدأ بل تستمر في كل الاتجاهات، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فأينما يولّي الهاربون وجوههم كانت كردستان.
الرواية لا تكون تاريخا من منظور علمي، لكنها قد تصبح تاريخا من منظور فني وأدبي، والفرق شاسع بينهما، فالعلم عالم المادة والقوانين والقواعد والحسابات، والفن عالم الخيال والشعور والعواطف، والثاني عالم مفتوح وحُرّ، أما الأول فعالم محدود ومقيد ومحسوب، فـ"هروب نحو القمة" تاريخ مقطع من الحياة في إطاره الفني والأدبي، في إطاره الخيالي والشعوري، الحسي والعاطفي، فالأحداث كلها واقعية وحقيقية، لكنها أُسقطت على إطار مختار من شخصيات وأماكن، في قصة نُسجت بعناية أحداثها وشخصياتها بل عالمها، إلى درجة أن الشخصيات خيالية فلا يكاد القارئ يعرف هذا في الرواية مِن ذاك في الواقع! وحقيقية إلى درجة قد يظن القارئ أحيانا أن هذا هو فلان أو عِلان، "هروب نحو القمة" عالَم من الخيال والشعور مصنوع من أحداث واقعية، وواقع مصنوع من الخيال، بهذا سجل تاريخا دون أن يكون بحد ذاته تاريخا!.
"سَرهلدان: بمعى الانتفاضة" الرضيع في أسبوعه الثالث، فهو المولود في الخامس من آذار/مارس حيث انطلاقة انتفاضة كردستان من رانية سنة 1991، فسُمي تيمنا بذلك، وهو الهارب في حضن والدته بعد انتكاسة الانتفاضة يوم الواحد والثلاثين من آذار/مارس من العام نفسه؛ 1991، وهو الميّت أولا في طريق الهروب، حيث يفشل في مقاومة البرد والمطر والليل مع انتهاء أول يوم وبدء اليوم الثاني من الهروب، و"بهيفان: بمعنى الشخص الذي في عزاء" فهي التي دخلت لتوّها سنتها الثالثة، فهي المولودة في السادس عشر من آذار/مارس عام 1989، بعد مرور عام على مأساة حلبجة، وسميت تيمُنا بذلك، ووالدتها "كانيك: بمعى الينبوع المتدفق ماء" تلك الطويلة الجميلة البهية الرشيقة العاشقة لـ"أوميد: بمعى الأمل" هو الوحيد الذي يبقى حيا بعد موت بهيفان ووالدتها كانيك معا في الثلوج بعد مسيرة عشرة أيام مشيا في أمطار وطين وثلوج لتترك العائلة "أوميدا" وحيدا يصل مخيم الهاربين.
يصل كأول على سباق ماراثون تراجيدي استمر لعشرة أيام، يخسر فيه جميع أفراد العائلة عندما يسقطون صرعى واحدا بعد الآخر إلا أوميد، تتركه وحيدا للمستقبل ليروي ما حدث من مأساة، ولتبقى روايتنا تعيش أملها، فعندما ترمز العائلة كلها إلى النكسات والانتصارات والثورات والمأساة ويذهب الجميع ويبقى الأمل لانطلاقات جديدة مهما كانت النكسات، لذا لا يموت الأمل وهو الذي يملكه الكرد دائما عندما يقتربون من الموت النهائي.