شعار قسم مدونات

كيف تمارس السياسة في المدينة الفاضلة؟

Blogs- china army
ما دفعني إلى قراءة كتاب "تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية)" الصادر عن دار الطليعة للطباعة والنشر، ببيروت سنة 1998، هو محاولة التعريف بالسياسة عند المفكرين القدامى، والتي يتم النظر إليها اليوم على أنها فعل مجرد من الأخلاق والمكتسبات الإنسانية، أي إنها مجرد ممارسة شريرة من طرف أشخاص همجيين هدفهم الربح على حساب الآخرين، أو كأداة بيد الحكام لاستعباد الشعوب، والتلاعب بالعقول ونشر الأفكار والسلوكات المبتذلة، لكن للأسف أن الشائع غلب الحقيقة التي مرامها: "أن السياسة هي علم كبقية العلوم لها أسس وقواعد وبراهين، وأن الإنسان هو من يعمل على التحريف والتزييف حتى يستولي على ما ليس له..".
    
لذا سأحاول في قراءتي الحالية للكتاب، التطرق إلى العناصر الثلاثة الكبيرة التي تم تناولها، إذ جاءت في شكل مقالات طويلة، وكما تم التوضيح من قبلِ الدكتور حسن العبيدي الذي قام بنقل الكتاب إلى اللغة العربية، فهذا النص قد مر بمراحل قبل إعادة تعريبه؛ إذ انتقل من الأصل "العربية" ثم نقل إلى العبرية ومنها إلى اللاتينية ومنهما إلى الأنجليزية ثم عاد إلى العربية.
   

عناصر المدينة الفاضلة
ما شدني هو النظر إلى السياسة كفن إنساني، وقبل كل شيء أنها علم مرتبط بالعمل الذي يقوم به الإنسان ويؤثر من خلاله على قيم الأمم، وهذا ما يتبين من خلال أقوال أفلاطون التي نقلها لنا "ابن رشد" قبل قرون مضت بتحليل وتفسير منهجي يبرز مدى التأمل والحكمة التي يمتاز بها البعض، وكما جاء في الكتاب: "إن هذا الفن ينقسم إلى جزأين: يتناول الأول العادات والشيم المكتسبة والأفعال الإرادية، وكيف تؤثر في بعضها، والثاني يبحث في كيفية غرس هذه العادات في النفوس"، والإنسان هنا لا يتميز بكل الفضائل الفكرية والخلقية والتأملية وهو منعزل عما حوله، الأمر الذي يتضح في مدى تفاعله مع محيطه وتأثره به وتأثيره فيه أي :"إن الإنسان كائن مدني بالطبع".
 
كتاب
كتاب "تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية)" (مواقع التواصل )
 
مِثل هذه الكتب الفلسفية تتطلب قراءة دقيقة وتركيزا ومع ذلك ستعاني بين سطورها آلاما في الرأس لأن بعض الطروحات قد تكون مثاليه زيادة عن اللزوم، وفي جوانب أخرى تكون نابعة من فهم ذاتي يرمي إلى ضرورة إعطاء الفيلسوف التأملي مكانة خاصة في الدولة أو المدينة الفاضلة كما يسميها أفلاطون: "المدينة ستكون فاضلة بسبب القوة النظرية التأملية التي تتحكم في باقي القوى الأخرى، شأن الإنسان الذي يعتبر فيلسوفا حكيما في قوته الناطقة العاقلة التي بها يسود على باقي قوى النفس المرتبطة به".
  
وأسمى ما يمكن أن يتمتع به الإنسان المنتمي إلى هذه المدينة هو العدالة التي تخضع لمنطق العقل، لكن ما لم أستطع هضمه هنا هو التناقض الموجود بين الأفكار، فمن جهة يطرح فكرة أن العدالة تتحقق عندما يمارس كل شخص دوره فيها حسب ما يملكه من قدرات تكون خاضعة بطبيعة الحال إلى فضائل أخلاقية سامية وفقا لزمان ومكان محددين أي: "اقتصار كل إنسان على اتباع أحسن ما يستطيع من الفعل المؤهل له بطبعه"، أي إن الجوهر الذي تقوم عليه المدينة الفاضلة هو العدالة التي تحضن في طياتها الكثير من الفضائل، لكن في الوقت ذاته وجب أن تحكم طبقة الحكمة أو الفلاسفة لاعتبارات ممارستها العلوم العقلية التأملية، والذي يبرره بحصر بعض الفضائل في طبقة مُعينة فقط من المدينة والتي تتمثل أساسا في الطبقة الحاملة للحكمة والشجاعة، بالإضافة إلى بقية الفضائل الموجودة لدى باقي الطبقات والمتمثلة في العدالة والعفة.
  
إن أفكار أفلاطون تتماشى وعصرنا الحالي الذي تكون فيه الدولة قائمة على أساس طبقي يتمتع فيه الحاكم بأفضلية على باقي طبقات الشعب، إلا أن ما يختلف هو ارتكاز حكيم وفيلسوف مدينته على الأخلاق وضرورة التحلي بالعدل والتعاون لأجل نشرِ الفضائل، قد يبدو الأمر مثاليا، لكنه في جوانب معينة يربط السياسة بفعل إنساني توثقه قيم أخلاقية لا نجدها في وقتنا الحالي، وهذا ما يبرر النفور الحاد من السياسة التي شوه معالمها ممارسوها بعيدا عن الفضائل التي تطرق لها أفلاطون ونقلها لنا الطبيب ابن رشد.
 

دستور المدينة الفاضلة
هنا يأخذنا "ابن رشد" في رحلة نحو الأساليب التي قدمها أفلاطون، والتي يمكن من خلالها ترسيخ القيم الأخلاقية التي تقوم عليها المدينة الفاضلة، أي كدستور تقوم عليه ويأخذ به الجمهور باتباع طريقتين: "الإقناع والانفعال"، إذ تتم هي الأخرى عن طريق الأقاويل الخطابية والشعرية وسأتعمق في ذلك من خلال ما فهمته، إذ إن الإقناع يكون بأسلوب عملي مرن يسهل غرس الفضائل في نفوس أهل المدينة أو الجمهور المتأثِّر بالخطابات والأقاويل الشعرية، أما أسلوب الانفعال لا يوجه لأهل المدينة الفاضلة، بل يطبَّق على الأمم الضالة وقد يأخذ شكل الحرب، أي تعليم الجمهور بالإكراه والقسر للأخذ بالفضيلة.
  
يرى أفلاطون بأن مساحة المدينة لا يجب أن تكون كبيرة جدا حتى تتجنب الوقوع في مشاكل المعيشة، ولا صغيرة جدا يسهل القضاء عليها من قبل المدن الأخرى أثناء الحرب أو الهجوم الخارجي من الأعداء.
يرى أفلاطون بأن مساحة المدينة لا يجب أن تكون كبيرة جدا حتى تتجنب الوقوع في مشاكل المعيشة، ولا صغيرة جدا يسهل القضاء عليها من قبل المدن الأخرى أثناء الحرب أو الهجوم الخارجي من الأعداء.
 

وفي سياق فن الحرب والتصدي للأعداء تكمن فضيلة الشجاعة، إذ يأخذنا أفلاطون إلى وصف غريب للجندي أو الحارس الذي شبهه بـ"كلب الصيد"، حيث لا يختلفان في طبيعة الحراسة، وهؤلاء الجنود المؤهلون لهذه المهنة هم: «الذين يجمعون في آن واحد بين قوة الجسم وسرعة الحركة والبديهة، لكي يتقصوا بسرعة متقنة ما يحسون به، وما يدركونه بصورة جيدة»، كما أن هذا التشبيه يحمل صفتين: "الحب للذين يعرفهم، والكره والسخرية للأعداء الخارجيين".

  
أما الآن سننتقل إلى الحاكم الصادق الذي يجب أن يتحلى بهذه الفضيلة، لكن في الوقت نفسه قد يُسمح له: "بالكذب البريء على العامة لغاية ما.. لأنه لا يوجد واضع للدساتير إلا ويلجأ إلى الحكايات الوهمية لأنها ضرورية كي يبلغوا السعادة".
  
لم يترك أفلاطون شيئا لم يُحاكيه في المدينة، إذ إنه ركز على ضرورة أن يهتم كل فرد فيها بحرفة واحدة، ينشغل بها ويتقنها، حتى لا يتشتت ويخسر كل شيء، واهتم كثيرا بنشأة الحارس الذي يجب تربيته منذ الصغر على أمور مهمة بعيدة عن الوهم، كما يجب ابتعاده وكل فرد من المدينة عن اللذة والشهوة، وأن يهتموا بالرياضة والطعام والموسيقى بشكلها البسيط الذي يُحدث التناغم في النفس ويبعد عنها الشرور، والإفراط في الطعام والشراب والموسيقى داخل المدينة الفاضلة يولد الحاجة إلى القضاء والطب: "وجود الطبيب ملائم في المدينة لأنه سيصف العلاجات النافعة ويميز العلل المستديمة من غيرها.. والقاضي مطلوب ليهتم بتقويم من هو ذو طبع شرير ومعاقبة أي شخص بقصد التوبة".
  
يرى أفلاطون ألا يكون أهل المدينة من حراس وفلاحين وأصحاب حرف، وغيرهم أغنياء ومالكين للذهب والفضة، لأن ذلك سيجعلهم مُهملين لمهارات وفنون الحرب، كما من المهم تحديد مساحة المدينة، إذ لا يجب أن تكون كبيرة جدا حتى تتجنب الوقوع في مشاكل المعيشة، ولا صغيرة جدا يسهل القضاء عليها من قبل المدن الأخرى أثناء الحرب أو الهجوم الخارجي من الأعداء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.