شعار قسم مدونات

مؤتمر لندن.. التاريخ يعيد نفسه

مدونات - مؤتمر لندن للصومال

منذ مؤتمر برلين 1884-1885م الذي أرسى قواعد التوسع والهيمنة الأوروبية على أفريقيا من أجل سيطرة مصادر القوة والثروة لتأمين المواد الخام وإيجاد أسواق عالمية للبضائع والمنتجات الأوروبية، بدأت الحملات والكشوفات الجغرافية ووصلت البعثات التبشيرية والجيوش إلى أفريقيا فقهروا الشعوب بقوة البارود والتفوق العسكري والمادي، ونجم عن هذا واقعا أفريقيا جديدا عنوانه الذل والإهانة ونهب الممتلكات ورسم الحدود بطريقة تخدم مصلحة الاحتلال وتمزيق الشعوب وطمس المعالم التاريخية والأثرية لأفريقيا الزاخرة بالتاريخ والفنون.
 

صوماليا كان الوجود الأوروبي أقدم من هذا الزمن بكثير، حيث وصل البرتغاليون إليها عام 1515م لنجدة الحبشة، وقد تمكنت النجدة البرتغالية من قتل الإمام أحمد الغازي وتدمير المدن التاريخية والمواقع الأثرية وحرق المساجد. ومنذ بداية التوسع الإمبراطورية البريطانية نحو أفريقيا كان الصومال الكبير من الأراضي التي تقع ضمن اهتماماتها لموقعها وثرواتها، وبعد أن احتلت الأخيرة مدينة عدن أصبحت السواحل الصومالية على مرمى حجر ونقاطا مهمة من أجل التمكين وبسط النفوذ في العمق الأفريقي وتأمين الملاحة البحرية العالمية.
 

بعد انتهاء حركة الدراويش ووفاة قائدها تمكن المحتلون المكوث في الصومال الكبير دون مقاومة، وبعد عقود بدأت حركات تحررية من نوع آخر، وبدأ حلم الوحدة يداعب الشعب من جديد. لكن كان للإنجليز سياسته الجاهزة: تقسيم الصومال وتفكيكها وإضعاف الشعب.

لم تدم مراقبة البريطانيين للسواحل الصومالية طويلا ففي عام 1883 وسعت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس نطاق سيطرتها لتضم شمال الصومال مما أجبر على الحامية المصرية الخروج عنها في خطوة اعتبرها السكان المحليون أنها غير أخلاقية وبعيدة عن المسؤولية الملقاة على عاتقها، لأن المصريين كانوا يحكمون الصومال نيابة عن الدولة العثمانية.
 

وبعد أن سيطر الأجزاء الشمالية للصومال واصل الإنجليز زحفه صوب العمق ونحو أوغادين المأزوم بسبب صراعاته ضد أباسينا، لقد احتل الإنجليز إقليم أوغادين الذي كان وما زال يحمل إرثا ثقافيا وتاريخيا للصوماليين بعد معاهدات مع شيوخ القبائل وأعيان المنطقة، ولكن وخلافا لكل المعاهدات وقع الإنجليز عام 1894م اتفاقية سرية بينه وبين الحبشة مفادها منح أوغادين للأخيرة التي كانت تطمع منذ سقوط مدينة هرر ابتلاع الصومال والوصول إلى المحيطات. وكان في بال أباطرتها أن الشعب الصومالي لا يستحق هذه السواحل الممتدة أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، في حين لا تملك إثيوبيا موطأ قدم في المحيطات والبحار مما يجعلها عاجلا أو آجلا دولة حبيسة تعيش تحت رحمة الموانئ الصومالية.
 

وبعد مرور عدة عقود وفي عام 1948م بات واضحا أن بريطانيا تريد غدر الصوماليين وإعطاء الحق لمن لا يستحق بعدما وقعت جميع الأقاليم في قبضة الإمبراطورية الإثيوبية وسلم الإنجليز مفتاح أوغادين للحبشة بطريقة علنية وإستفزازية لمشاعر المواطنين، ولكن بدأت إرهاصات التنازل الإنجليزي للحبشة عام 1942م عندما منحت إثيوبيا إقليم جكجكا والأراضي الواقعة غربه لإثيوبيا تمهيدا للخطوة القادمة.
 

بدأ الصوماليون انتفاضات شعبية عارمة وعمت المظاهرات جميع المدن وأرسلوا البرقيات والوفود إلى العواصم العالمية، ولكن الاستعمار كعادته أجهض الحلم وقتل الأبرياء في جكجكا ومعظم المدن الصومالية، وهكذا فقد الصوماليون جزأ عزيزا من تاريخهم وتراثهم وبات وطنا لغرباء منحتهم بريطانيا التي كانت تسعى إلى استعباد الشعب ونهب الثروات ووقف المد الإسلامي وكبح جماح الحركات الجهادية التي ضيقت الخناق لنصارى الحبشة حتى كادت أن تتلاشى وأن تذوب في الوسط الإسلامي.
 

أما الإقليم الخامس أنفدي (المقاطعة الحدودية الشمالية لكينيا) فلم يكن أحسن حظا من الأقاليم الصومالية الأخرى ففي خطوة استعمارية واضحة المعالم قطعت بريطانيا هذا الإقليم لكينيا التي كانت قبل مجيء الاستعمار شعوبا وقبائل لم تجمعهم دولة أو لسان أو كيان، ومن العجيب أن المحتل يؤسس دولا من العدم في حين يقطع أوصال الأوطان والشعوب المتجانسة دينيا وعرقيا.

كانت مأساة الصوماليين منذ فجر الاحتلال صناعة بريطانية بامتياز، وبعد أن اتفقت هذه الدول تقسيم الكعكة الصومالية بدأ صراع من نوع آخر صراع الأيديولوجيات، وأصبحت الصومال خطا ساخنا للشيوعية والرأسمالية في حقبة الحرب البارد.

وفي غضون السنوات التي سبقت الاستقلال الكيني كان الصوماليون يواصلون المظاهرات وينددون النية الإنجليزية لإلحاقهم إلى كينيا، وفي استفتاء شعبي عام اختار الشعب الانضمام إلى الصومال، ولكن وفي سياسة مشابهة لغدر الإنجليز على إقليم أوغادين واجه الاحتلال هذه الرغبة الوطنية بمزيد من القمع وإراقة الدماء ومصادرة الحريات والحقوق.
 

أما القسم الجنوبي للصومال ورغم تأخر إيطاليا الوصول إلى الصومال نظرا لظروفها الداخلية فقد بسطت نفوذها في معظم أقاليم الجنوب بعد الاتفاقية الشهيرة بين الشركة البريطانية لشرق أفريقيا وكاليني ممثل إيطاليا وسفيرها في لندن التي بموجبها تنازلت بريطانيا للحكومة الإيطالية المناطق الساحلية بين كسمايو ومقديشو عام 1889م، أما جيبوتي فكان الفرنسيون يواصلون سياساتهم العنصرية والاضطهادية ضد الشعب الصومالي الأعزل.
 

ورغم تكالب الأعداء لم يستسلم الصوماليون بل واصلوا كفاحهم ضد الإمبريالية العالمية التي مزقت أجزاء وطنهم، ورفعت حركة الدراويش لواء التحرير والمقاومة الوطنية وأحرجت الترويكة الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا) إضافة إلى الحبشة، ورغم ذلك لم تستطع آلة الاحتلال كبح جماحهم وترهيبهم، مما جعل صورة المحتل مهزوزة أمام العالم وخاصة بريطانيا التي كانت تقود المعارك فكان ردة فعلها هجوما بريا وجويا واسعا شاركت فيه ولأول مرة طائرات حربية تقصف الأبرياء في سابقة أولى من نوعها في أفريقيا التي لم تشهد قصفا جويا قبل قلعة تليح التاريخية عام 1920م.

وبعد انتهاء حركة الدراويش ووفاة قائدها تمكن المحتلون المكوث في الصومال الكبير دون مقاومة تذكر، وبعد عقود بدأت حركات تحررية من نوع آخر، وبدأ حلم الوحدة يداعب الشعب من جديد. لكن كان للإنجليز سياسته الجاهزة: تقسيم الصومال وتفكيكها وإضعاف الشعب المحارب فنال الشمال استقلاله من بريطانيا في 26يونيو1960م لينضم إلى الجنوب الذي تحرر من إيطاليا في نفس العام وكوّنا جمهورية الصومال، في حين تفنن الإنجليز في إبعاد الحلم الصومالي عندما منح نهائيا إقليمي أوغادين وأنفدي لإثيوبيا وكينيا.
 

الصومال الغني طبيعيا الذي مزقته الحروب من الممكن أن تكون وجهة محتملة لبريطانيا، خاصة وأن الصومال تتحكم على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وخليج عدن ويعتبر صمام الأمن القومي العربي.

وهكذا كانت مأساة الصوماليين منذ فجر الاحتلال صناعة بريطانية بامتياز، والصراع الأوروبي الصومالي صراع المصالح والمبادئ، ففي بداية التدفق الأوروبي لأفريقيا كانت مسرحا للقوى الكبرى، وبعد أن اتفقت هذه الدول تقسيم الكعكة الصومالية بدأ صراع من نوع آخر صراع والأيديولوجيات، وأصبحت الصومال ميدانا مفتوحا للتحالفات العالمية وخطا ساخنا للشيوعية والرأسمالية في حقبة الحرب البارد.
 

لماذا الصومال؟
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والعزلة السياسية الذي تواجهه يتحتم عليها البحث عن موطأ قدم في أفريقيا، وبما أن الدول الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية فقدت كثيرا من مواردها منذ الاستقلال بسبب الاتفاقيات مع الدول والشركات العالمية فالصومال الغني طبيعيا الذي مزقته الحروب من الممكن أن تكون وجهة محتملة لبريطانيا، خاصة وأن الصومال تتحكم على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وخليج عدن ويعتبر صمام الأمن القومي العربي إضافة إلى وجود المعادن الهائلة وخاصة الغاز الطبيعي والنفط واليورانيوم والحديد والنحاس، وكون القرن الأفريقي يكتظ بدول معادية أو منافسة لبريطانيا كالولايات المتحدة وفرنسا والصين وتركيا وحتى إيران التي باتت تهدد المصالح الغربية بعد أن تمكنت من سيطرة اليمن عبر حلفائها الحوثيين.
 

التاريخ يعيد نفسه، بريطانيا تنظم مؤتمرا للصومال في لانكستر هاوس الذي تم فيه تقسيم الدول الأفريقية بما فيها الصومال وتحت أجندات براقة وخادعة، وسيتبرع الغرب أمالا طائلة ستذهب في جيوب المنظمات الاقتصادية العالمية الوجه الناعم للكولونيالية الجديدة، ولكن الأهداف الحقيقية هو نيل الامتيازات ونهب الخيرات واستعمار جديد بقوالب رنانة ( إعادة الأمن، محاربة الإرهاب، المساعدات الإنسانية، بناء مؤسسات الدولة)، ولكن هذه المرة سنراهن اليقظة الصومالية والذاكرة الحية للشعب الذي اكتوى نار التقسيم بسبب بريطانيا وسياستها العدوانية ضد الشعب الصومالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.