شعار قسم مدونات

السلفية الأشعرية.. فنّ الإقصاء وصناعة التطرف

مدونات - تاريخ مسلسل الإمام حنابلة أشاعرة علماء عالم شيخ دين

لا نقصد بالسلفية هنا الحقبة الزمنية، ولا فضلاء الحنابلة، بل نقصد بها تجاوزًا -بناء على ما هو شائع اليوم في توصيف الظواهر المتشددة- الفكر الإقصائي، الذي يمارس الانتقائية التاريخية ويريد التفلت من تراث الأمّة كلها لصالح فهمه وظاهريته في فهم النصوص، وقصوره عن فهم الدين والدنيا وتعقيداتها المتشابكة، ويسعى لإقصاء الآخر وتجريحه بعيدًا عن الحقل العلمي والمنهجية المحترمة. 

 

وفي ردّ فعلٍ ضد السلفية المعاصرة التي تُرْجع جذورها إلى ابن تيمية والحنابلة، وجّه فريقٌ من الأشاعرة سهام النقد والتفنيد لها، ومع زيادة مساحة الخلاف، واتخاذه مسارات أخرى فقهية وعقدية وفرعية، اتسع من كل جوانبه، ورافق ذلك أسلوبًا ساخرًا ومتهكمًا من الطرفين، وصار عندنا ما يُمكن تسميته بالسلفية الأشعرية، أي صار عندنا سلفيتان واحدة حنبلية بكلّ فروعها وروافدها، وأخرى أشعرية، وهي التي تكفر السلفيين، ومحمد بن عبد الوهاب، وربما كفرت ابن تيمية بسبب قوله بقدم العالم كما سمعت بنفسي من أحد أكبر المشايخ في الأزهر. وفي تلك اللوثة صنّف الدكتور محمد عمارة كتابه "فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية".

 

لستُ بصدد نفي الخلاف أو التقليل منه، ولكن يجب أن يبقى الخلاف داخل الأروقة العلمية وعلى منهج أبي حامد الغزالي "إلجام العوام عن علم الكلام"

هذه السلفية الأشعرية لم تقتصر على ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب بل صارت منهجًا ودينًا وديدنًا، ومنهجًا في الاستنباط والفهم والتأويل، فاتسع الخرق على الراقع، حتى كفّرت تلك المدرسة الشيخ محمد عبده، وشيخه الأفغاني وتحرشت بالسيد رشيد رضا، ثمّ تحرشت بكثير من المعاصرين، حتى وقعت فيما وقعت فيه السلفية المعاصرة فرمت بعضها بعضا، وأكلت نفسها، فمن بقي إذن من فضلاء الدين، ومصلحي الإسلام؟!

 

وقد سمعتُ بنفسي من أحد مشايخي وكان مفتيًا لدولة عربية بأنّ السلفيةَ فَسَقة، وبأنّ محمد بن عبد الوهاب من الخوارج، وأن ابن تيمية كافر. هكذا بكلّ جرأة. فإذا كان هذا الشيخ يلوم تشدد هؤلاء فإذا به يصير متطرفا هو الآخر وربما أكثر منهم. دعك من هذا الشيخ الذي يمسك أعصابه ويخرج في الإعلام ليُفتي بقول ابن تيمية في مسألة الطلاق وغيره، ويصف محمد عبده بالإمام المجدد مع أنه في دروسه الخاصة يُفسّق الرجل، لكن تعالَ إلى تلامذته ومن عادة التلامذة والطلاب التشدد والتعصب لقول شيخهم، فيعمّ التطرف وتنتشر ثقافة التكفير حتى عند من بنى منهجه كرد فعل ضد المتطرفين، فوقع فيما حذر منه.

 

ولستُ بصدد نفي الخلاف أو التقليل منه، ولكن يجب أن يبقى الخلاف داخل الأروقة العلمية وعلى منهج أبي حامد الغزالي "إلجام العوام عن علم الكلام"، ويجب أن يُتناول بالعلم المحض غير المقترن بالسباب والعنجهية والإقصاء، هذا إذا كان الغرض إيضاح الحقيقة للآخر وهدايته، أمّا السباب والتكفير والسخرية فليست فلسفيا ونفسيًا سوى الانتصار للذات، وقمع المخالف، ولو على حساب إيضاح الحقيقة للآخر.

 

تاريخ الصراع

undefined

 

الصراع بين الحنابلة والأشاعرة قديمٌ ومتجذر وليس حديثًا أو طارئًا مع ظهور السلفية المعاصرة، وتتحدث كتب التراجم والتاريخ عن معارك وفتن اشتعلت بين الجانبين، تارة توظفها السلطات السياسية وقتئذ لإشغال رجال الدين بتلك القضايا عمّا هو أهمّ، وتارةً تأتي بداهةً ثمّ تُوظّف سياسيًا أو دينيًا حسب النافذين في تلك الفتنة.

 

دخل بغداد الشريف أبو القاسم البكري سنة 475هـ وجلس في المدرسة النظامية ليتكلم على مذهب الأشعرية ثمّ أصرّ على أن يعظ بجامع المنصور وهو بؤرة الحنابلة ومكان تجمعهم وقتئذ، وذهب المسجد في حراسة الشرطة، وهاجم الحنابلة، ورماهم بالكفر، وقال: "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، وما كفر أحمد بن حنبل إنما كفر أصحابه، فرماه الحنابلة بالآجر". وفي سنة 566هـ نصَر محمد البروي مذهب الأشعرية وأهان الحنابلة قائلا: لو كان لي أمر لوضعت عليهم الجزية. وبادلهم الحنابلة نفس المعاملة وأكثر. وامتدّ التكفير ليشمل كلّ الطوائف والفرق، فدخل أبو يوسف القزويني المعتزلي على نظام الملك وفي مجلسه أبو محمد التميمي الحنبلي، ورجل آخر أشعري، فقال له مازحًا: قد اجتمع عندك رؤوس أهل النار، قال: كيف؟ قال: أنا معتزلي، وهذا مشبه، وذاك أشعري، وبعضنا يكفّر بعضا.

 

بل دخلت نار التكفير داخل البيت الواحد فاستأذن عميد الملك الكندري وزير طغرلبك وكان حنفيا متعصبا وماتريديا في العقيدة، استأذن السلطان سنة 445هـ في لعن الرافضة على منابر خراسان فأذن له، فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية. فالتكفير وإن كان بين الأشعرية والماتريدية فهو ليس كالذي بين الأشعرية والحنابلة إلا أنه يُثبت أنّه واردٌ من حيث المبدأ مع وجود البيئة الحاضنة له.

 

وتدخلت السلطات السياسية تهدئة أو تأجيجًا حسب طبيعة صراعها ورؤيتها التكتيكية للأحداث، فعلى سبيل المثال فقد أمر طغرلبك الحنفيّ الماتريديّ بالقبض على زعماء الأشعرية في خراسان، ونفى آخرون منهم، إلى أن هوجم السجن من جماعة من الأشعرية وأخرجوا من فيه من المعتقلين، فغضب طغرلبك وأمر بالقبض على الشيخ أبي سهل ابن الموفق الأشعري الذي تولى كبر مهاجمة السجن، وسُجن، وصودرت أمواله. واستمر التضييق على الأشعرية حتى تُوفي طغرلبك، سنة 455هـ.  

 

واليومُ هناك قوم لا يتعلمون من مدرسة التاريخ ويتعاملون مع الخلافات العلمية والكلامية بنفس أسلوب القرون الأولى، وهو ما يُؤجج الصراعات ويقضي على أي وحدة أو تماسك بين فرق الأمة الوحدة، لدرجة أنّ بعض من درسوا في الأزهر من المصريين أو الأفارقة أو الماليزيين عندما يذهبون إلى أوربا أو بُلدانهم يظنون أنّ نقل الرسالة وتعليم الناسِ الدين يكمنُ في إثارة مثل هذه الخلافات، حتى قابلتُ نفرًا من المسلمين الأوربيين يُثيرون قضايا دقيقة في علم الكلام ويتهارشون عليها في مساجدهم، ويُفسّقون بعضهم بعضًا.

 

المسألة ليست في أن نكون فرقة واحدة، لأنه لا محالة سيحصل الاختلاف، ولكن المشكلة تكمن في إدارة الخلاف العلمي وتوظيفه
المسألة ليست في أن نكون فرقة واحدة، لأنه لا محالة سيحصل الاختلاف، ولكن المشكلة تكمن في إدارة الخلاف العلمي وتوظيفه
  
سنقتل الآخرين ثمّ نقتل أنفسنا!

أحد أصدقائي من الأكاديميين اليمنيين عبرت له عن حزني من التشدد المذهبي المقيت، وأن الإسلام يجب أن يجمعنا كأمّة واحدة، أشاعرة وزيدية وسلفية وصوفية وإباضية وشيعة، فقال لي: هب أنّ السنّة قضوا على الشيعة، فهل سيُرفع الخلاف؟ لا، سوف ينقسم السنّة إلى أشعرية وسلفية -وهذا بالفعل الذي حصل تاريخيًا بعد قضاء نظام الملك على الشيعة فاختلف السنة فيما بينهم وكفروا بعضهم بعضا-، ثمّ هب أن السلفية قضت على الأشعرية فهل سيزول الخلاف؟ لا، بل ستقوم معارك أخرى بين تيارات السلفية المدخلية والرسلانية والجهادية والتقليدية والبرهامية، ومئات المدارس الصغيرة والكبيرة.

 

وهب أن الأشاعرة كسبوا معركتهم فسوف يختلفون فيما بينهم ويُكفّر بعضهم بعضًا بسبب مسائل فقهية وفروعية، وهكذا تستمر الأمور إن لم نستطع وضع ضوابط وقواعد حاكمة لإدارة الخلاف وماذا نريد بعد الخلاف؟ هل تتمّ مقاطعة المختلفين معهم؟ هل يتمّ تجريمهم؟ هل نريد قتلهم؟ أم أن يبقى الخلاف خلافًا علميًا وفي الدوائر العلمية، بدون إجراءات عملية على الأرض كالتبديع والتفسيق والهجران وتحريم المصافحة والسلام ونحو ذلك من مسائل أوردها القدماء في التعامل مع المبتدع؟ إذن فالمسألة ليست في أن نكون فرقة واحدة، لأنه لا محالة سيحصل الاختلاف، ولكن المشكلة تكمن في إدارة الخلاف العلمي، وتكبيره وتصغيره، ومدى استغلال هذا الخلاف سياسيًا وتوظيفه.

 

في المقال القادم نتناول دور السلطة السياسية تاريخيًا في توظيف هذا الخلاف العقدي، وكذلك في الحلول الواقعية. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.