شعار قسم مدونات

الصهيونية المسيحية "البروتستانتية"

blogs مارتن لوثر

ظل "اليهود" في نظر العالم المسيحي بأسره، "أمة ملعونة"، لمدة ألف وخمسمائة عام، لأنهم في اعتقاد المسيحيين قَتَلة السيد المسيح، حيث عانى اليهود صنوفًا من الاضطهاد، والازدراء، بناء على هذا التصوُّر، الذي ترسَّخ في العقل المسيحي. ورغم أن هذا التصوُّر، من وجهة نظر إسلامية، تصوُّر ظالم، أنتج ممارسات ظالمة، إلا فإنه صمد، على مر القرون، مدعومًا بنصوص كثيرة من الإنجيل، وظروف اجتماعية، وسياسية خاصة.

 

لكن القرن الخامس عشر الميلادي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية الغربية، على الأقل، مع بزوغ ما عُرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق، سياسي وعقائدي، داخل الديانة المسيحية، بشكل عام، والكاثوليكية الغربية، بشكل خاص، حيث كان من نتائج هذه التحولات، أن أصبحت المسيحية الجديدة، التي عُرفت باسم البروتستانتية، ربيبة لليهودية.

فقد أصبحت للتوراة، أو "العهد القديم" أهمية أكبر في نظر البروتستانت، من "الإنجيل"، أو "العهد الجديد"، وبدأت صورة "الأمة اليهودية" تتغير، تبعًا لذلك، في أذهان المسيحيين الجدد. ولم يكن الانشقاق داخل الكنيسة، رغم الطابع الأيديولوجي الذي اصطبغ به، بعيدًا عن صراعات السيادة بين الأمم الأوروبية، يومها، خصوصا بين فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، فقد انحازت الكنيسة الكاثوليكية إلى جانب فرنسا، مما جعل الشعبين، الإنجليزي والألماني، يميلان إلى اعتناق المذهب البروتستانتي، الذي دعا إلى التحرر من سلطة الكنيسة.

في عام 1538، أصدر الملك هنري الثامن، إعلانا أمر بتجميع الكتاب المقدس، في كتاب واحد باللغة الإنجليزية، ليكون أكبر كتاب عرفته اللغة الإنجليزية
في عام 1538، أصدر الملك هنري الثامن، إعلانا أمر بتجميع الكتاب المقدس، في كتاب واحد باللغة الإنجليزية، ليكون أكبر كتاب عرفته اللغة الإنجليزية
 

ظهر هذا التحوُّل في النظرة المسيحية إلى اليهود، في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي الشهير، القس الفيلسوف، مارتن لوثر. فقد كتب لوثر، عام 1523، كتابا، عنوانه "المسيح وُلد يهوديا"، الذي أعيد طبعه سبع مرات، في العام نفسه؛ وشرح فيه لوثر المواقف المؤيدة لليهودية، وأدان اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لليهود، محتجًا بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد، وأردف: "إن الروح القدس شاءت أن تُنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود، وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب، التي تأكل من فتات مائدة أسيادها".

 

كان لوثر، يؤمن بأن نبوءة التوراة، حول إنقاذ كل "إسرائيل"، كأمة ستتحقق، وكان يلوم البابوية، لتحريفها المسيحية، وصدها بذلك اليهود عن اعتناقها

يدافع لوثر عن اليهود ضدَّ كَثْلَكَةٍ يتّهمها باضطهادهم، ويطالب بوقف هذا الاضطهاد، الذي يمارسه "لوطيّون جهلة، كلُّ ما يفعلونه هو اضطهاد اليهود"، ويطالب بوقف الاضطهاد المسيحيّ "ضد اليهود، وإلحاق الإهانات بهم، قائلين إنهم بحاجة لعون المسيحيّين للتخلُّص من نتنهم، وغير ذلك من السخافات". كما يتَّهم لوثر الكنيسة الكاثوليكية بأنّها تعاملتْ مع اليهود "كأنهم كلاب، لا بشر"، وبأنّها مارستْ "العنف، والكذب ضد اليهود"، وأن المسيحيّين، المنقادين لها، "يمنعون اليهودَ من العيش والحياة بيننا وفي مجتمعاتنا".

 

كان لوثر، يؤمن بأن نبوءة التوراة، حول إنقاذ كل "إسرائيل"، كأمة ستتحقق، وكان يلوم البابوية، لتحريفها المسيحية، وصدها بذلك اليهود عن اعتناقها.

لكن موقف لوثر من اليهود أصبح أكثر قسوة في القسم الثاني من حياته، فقد أثارت حفيظته الأنباء القائلة إن اليهود كانوا يجمعون الأنصار لعقيدتهم، من خلال حركة المسيحيّين المتشددين في مورافيا، بدلاً من أن يرتدوا للمسيحية. وفي عام 1544، ألف لوثر كتابه "اليهود وأكاذيبهم"؛ وتضمن هذا الكتاب سيلاً من الشتائم والهجوم على اليهود، إذ وصفهم بأنهم خبثاء، ولصوص، وقطَّاع طرق، وديدان مقزِّزة. واستخدم لوثر في كتابه كل الاتهامات، التي كانت توجَّه إلى اليهود، في العصور الوسطى، مثل تهمة الدم، وتسميم الآبار، واتهمهم بأنهم يلعنون المسيحيين في معابدهم، ووصف اليهودية بأنها أصبحت شكلا من أشكال الوثنية. كما أوصى لوثر بضرورة إحراق معابد اليهود، وتدمير منازلهم، وأن يجمعوا، كالقطيع في الحظائر، حتى يتحققوا من أنهم ليسوا أسيادًا في بلادهم، وإنما غرباء في المنفى.

بالرغم ذلك فإن لوثر دعا، في الكتاب نفسه، إلى: "من الذي يحول دون اليهود وعودتهم إلى أرضهم في يهوذا؟ لا أحد. إننا سنزوِّدهم بكل ما يحتاجون لرحلتهم لا لشيء إلا للتخلص منهم. إنهم عبء ثقيل علينا، وهم بلاء وجودنا".

 

في عام 1538، أصدر الملك هنري الثامن، إعلانا أمر بتجميع الكتاب المقدس، في كتاب واحد باللغة الإنجليزية، ليكون أكبر كتاب عرفته اللغة الإنجليزية وقد أمر بأن توضع نسخة منه في كل كنيسة في إنجلترا.

 

مع ترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللغة الإنجليزية، واتخاذه كأعلى مرجع للكنيسة الإنجليزية المستقلة، أصبح التاريخ، والتقاليد، والقيم العبرية، جزءًا من الثقافة الإنجليزية، وأصبحت اليهودية، على مدى ثلاثة قرون، العامل القوي الوحيد المؤثِّر في الثقافة الإنجليزية. وكما قال ماثيو أرنولد، فقد "ربطت عبقرية، وتاريخ الشعب الإنجليزى، بعبقرية وتاريخ الشعب العبري".

 

أينما سيطر الإصلاح، حل "الكتاب المقدَّس" محل البابا، كسلطة روحية عليا. وازداد التركيز، أكثر وأكثر، على الأصول الفلسطينية للمسيحية، للتقليل من ادعاءات روما. وحلَّت كلمة "الرب" كما هي واردة في الكتاب العبري (العهد القديم)، لإبراهيم، وموسى، ووصايا إشعيا، وإيليا، ودانيال، والمسيح، وبولس، محل الأوامر البابوية.

 

أصبح "العهد القديم" مصدرًا مهمًا للمعلومات التاريخية عند العامة، حيث اقتصر تاريخ فلسطين على القصص المتعلقة بالوجود اليهودي فيها، دون غيرها

يقول توماس هاكسلي: "تذكَّروا الحقيقة التاريخية العظيمة، ألا وهي أن هذا الكتاب قد تخلل حياة كل نبيل، وسام، في التاريخ الإنجليزي، وأصبح الملحمة القومية لبريطانيا". وتحققت الحقيقة المدهشة، بتحوُّل التاريخ العائلي لشعب إلى الملحمة القومية لشعب آخر. وبعد طبع نسخة الملك جيمس، في 1611، اكتمل التبني، وأصبح "الكتاب المقدَّس" جزءًا لا يتجزأ من إنجلترا، مثله مثل الملكة بس، أو الملكة فيكتوريا. وعادة ما يشير الكُتّاب إلى "الكتاب المقدَّس" بعبارات مثل "الكتاب المقدَّس" أو "أعظم الكلاسيكيات الإنجليزية"، أو حتى "أكثر قطع التراث القومي احترامًا" يقول اتش دابليو هور، في كتابه "تطوُّر الكتاب المقدَّس" الإنجليزي، ويرينا كيف يمكن أن يضلل الحماس الباحث: حيث إن الكتاب المقدَّس الإنجليزي، ليس أكثر احترامًا من تشوسر، ولا هو قطعة تراث، إلا كترجمة. وسيظل محتواه تسجيلاً لأصول، ومعتقدات، وقوانين، وتقاليد، وتاريخ يهود فلسطين، وقد وضع أغلبه، قبل أن يتعلم أي شخص في إنجلترا القراءة والكتابة. ولكن لم يتغلغل كتاب آخر في دماء وعروق الإنجليز، كما فعل هذا الكتاب؛ وحين طلب والترسكوت المحتضر من لوكهارت أن يقرأ له، سأله لوكهارت "من أي كتاب؟"؛ فقال له سكوت: "لا يوجد سوى كتاب واحد، الكتاب المقدَّس! ".

 

يذكر مؤرخ يهودي آخر، هو سيسيل روث (Cecil Roth)، عن صدور مطبوعات، تمجِّد اليهود، وتطالب بإعادتهم إلى إنجلترا. وقد ترجمت إلى الأسبانية، ليسهل تداولها بين يهود هولندا، وإنجلترا، المهاجرين من أسبانيا، والبرتغال.

 

لأثر العام الذي تركته البروتستانتية، فيما يتعلق بنظرة أوروبا إلى اليهود، بقوله: "إن الثورة البروتستانتية، وترجمات الكتاب المقدَّس حفزت الكثير من الأسئلة عن مكانة اليهود، وطبيعة معتقداتهم، والإله الذي يعبدونه. وحدث بصورة تدريجية، تحوُّل في نظرة المسيحيّين في أوروبا إلى وجود اليهود بينهم، وأثارت معرفة الناس بنصوص "العهد القديم"، فضولهم حيال مفاهيم "العهد"، و"الشعب المختار"، وأرض الميعاد"، وكل الأساطير التي وردت عن اليهود، وديانتهم، وأنبيائهم".

 

ثمة ميثاقًا إلهيًا يربط اليهود بالأرض المقدَّسة في فلسطين، وأن  هذا الميثاق، الذي أعطاه الله لإبراهيم، هو ميثاق سرمدي، حتى قيام الساعة
ثمة ميثاقًا إلهيًا يربط اليهود بالأرض المقدَّسة في فلسطين، وأن  هذا الميثاق، الذي أعطاه الله لإبراهيم، هو ميثاق سرمدي، حتى قيام الساعة
 

في ظل هذا الوضع أصبح "العهد القديم" مصدرًا مهمًا للمعلومات التاريخية عند العامة، حيث اقتصر تاريخ فلسطين على القصص المتعلقة بالوجود اليهودي فيها، دون غيرها، وبالتالي أصبح البروتستانت مهيئين للاعتقاد بأنه لم يكن في فلسطين إلا الأساطير، والقصص التاريخية الواردة في "العهد القديم"، حيث كأنه لا وجود للشعوب الأخرى، التي عاشت في فلسطين. وهكذا، رسَخت في أذهان البروتستانت فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين، باعتبارها وطنهم القومي، الذي أٌخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه، طبقا للنبوءات الواردة في "العهد القديم". كما أن حركة الإصلاح الديني أعطت وزنًا كبيرًا للغة العبرية، باعتبارها اللغة الأصلية للكتاب المقدَّس. فلكي يفهم المؤمنون كلمة "الله" بشكل صحيح، لا بد لهم من معرفة اللغة الأصلية، التي كُتب بها، وبالتالي، أصبح العلماء، والمصلحون، وحتى العامة، منكبين على دراسة اللغة العبرية، وتعلمها.

 

قبل نهاية القرن السادس عشر، أخذت الحروف العبرية تُستعمل في الطباعة، ولم تعد معرفة العبرية مقتصرة على كتب "العهد القديم"، بل انكب المسيحيون العاديون، ورجال الدين، على دراسة أدب الأخبار؛ وأصبحت العبرية "مسألة ثقافة واسعة، كما هي مسألة دين، وسرعان ما تحوَّلت معرفة الأدب العبري، أو الإلمام بشيء منه، على الأقل، من ترجمة أشعار "العهد القديم"، غير الصحيحة، وغير المترابطة، إلى معرفة هذه الكتب، بلغتها الأصلية، والتبحُّر في عالم الفكر العبري، الذي لم يكن مكتشفًا، من قبل".

بذلك تحول "العهد القديم" من كتاب ديني، إلى كتاب سياسي، يقوم على قاعدة العهد الإلهي بالأرض المقدمة "للشعب اليهودي المختار". لذلك، تسربت إلى صميم العقيدة المسيحية، أدبيات يهودية، تبنتها الفرق البروتستانتية جميعًا، كوَّنت مكوِّنات أساسية للتطابق الحاصل في فهم الأصولية، الدينية والسياسية، بين ما يطرحه اليهود المتطرفون، وبين ما تطرحه فرق البروتستانت، بحيث بدا أن لا فرق واضحًا فيما بينهما.

 

اتحد الديني بالسياسي، واللاهوتي بالتاريخى، فخلق علاقة مميَّزة، بين البروتستانتية واليهودية، بشكل عام، وبين الأصولية البروتستانتية، والصهيونية اليهودية بشكل خاص

في هذا الصدد يقول محمد السماك، في كتابه "الصهيونية المسيحية": وقد تركَّزت هذه الأدبيات بشأن الأمور التالية:

الأول: أن اليهود هم "شعب الله المختار"، وأنهم يكوِّنون بذلك الأمة المفضَّلة على كل الأمم.

 

الثاني: هو أن ثمة ميثاقًا إلهيًا يربط اليهود بالأرض المقدَّسة في فلسطين، وأن هذا الميثاق، الذي أعطاه الله لإبراهيم، هو ميثاق سرمدي، حتى قيام الساعة.

 

الثالث: ربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح، بقيام دولة صهيون، أي بإعادة تجمُّع اليهود في فلسطين، حتى يظهر المسيح فيهم.

هذه الأمور الثلاثة ألَّفت في الماضي، وهي تؤلِّف اليوم قاعدة الصهيونية المسيحية التي تربط الدين بالقومية، والتي تسخِّر الاعتقاد الديني المسيحي لتحقيق مكاسب يهودية.

 

هكذا اتحد الديني بالسياسي، واللاهوتي بالتاريخى، فخلق علاقة مميَّزة، بين البروتستانتية واليهودية، بشكل عام، وبين الأصولية البروتستانتية، والصهيونية اليهودية بشكل خاص، بل زاد الأمر أن تأسيس ما سمي بالصهيونية المسيحية. لقد آمنت الصهيونية المسيحية، قبل تأسيس دولة (إسرائيل)، بعودة اليهود، كشعب إلى أرضه الموعودة في (فلسطين)، وإقامة كيانه الوطني فيها، تمهيدًا للعودة الثانية للمسيح، وتأسيسه مملكة الألف عام. وبعد قيام (إسرائيل)، أخذت الصهيونية تنظر إلى (إسرائيل) كحدث، وإشارة، تؤكد معتقداتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.