شعار قسم مدونات

زِبديّة وحاكورة وشجرة تين

blogs-gaza
تأخذني القريحة اليوم إلى الماضي، لسبب ما أتذكر تجاربي القليلة من طفولتي في غزّة، تلك التي تظهر في التلفاز على أنها رمز العزّة وآخر الحصون ضد الأعداء. وبين العام والآخر ربما قامت فيها حرب فأصبحت محل التضامن والتعاطف وشيء من الشفقة، بينما تقبع بقية العام في مكانها كما أي شيء آخر في عالمنا اليوم، في خلفية الوعيّ بعيداً عن المرأى والمسمع.
 

لا أحد يستطيع أن يلوم الناس فليس من الممكن أن نتخيل بأن شخصاً تمرّ عليه كل هذه الملهيات والمبكيات كل يوم يمكن له أن يضع رأسه على مخدته مساءً ويفكر في بقعة من الأرض ينام فيها أشباهه من البشر دون أن يفكرّوا فيه.
 

أذكر يديّ جدّي أكثر من أي شيء آخر.. لونها كلون أرضه بني أحرقته الشمس، ومعرّقة كجذور شجيرات الزيتون فيها.. أذكر أن علامات التعب والشقاء بادية عليها.

ولكننّي لن أتحدث اليوم عن سياسة أو الضمائر أو الحقوق.. لا شيء من تلك العبارات.. يغلبني سيل الذاكرة ويأخذني إلى مكان ما حيث الصيف، تعريشة عنب فوق بيت جدّي، وشجرة التين في "حاكورته"، وفناجين قهوته التي لا تنقطع.. اقربوا اقربوا.. كان يقول لمن يمر أمامه وهو جالس يراعي دِلال القهوة التي تقضي طول يومها بجانب جمرات الأخشاب المتفحمة، تحتفظ بحرارتها في حال جاء ضيف على غفلة.
 

أذكر يديّ جدّي أكثر من أي شيء آخر.. لونها كلون أرضه بني أحرقته الشمس، ومعرّقة كجذور شجيرات الزيتون فيها.. أذكر أن علامات التعب والشقاء بادية عليها، ليست أيادٍ ناعمة ملساء.. أذكر فطوره الذي عهدته.. بضع قرون من الفلفل الأخضر مع قليل من الجرادة الخضراء (أو ما يسمّى بالشّبت لا الجرادة الحشرة.. تخيلت من يقرأ يبحلق في الشاشة فجأة وتجحظ عيناه وهو يقرأ كلمة جرادة هنا). يفركها بأداة كيد الهاون من الخشب نسيمها "مدقّة" في إناء فخاري "زبديّة" وينثر عليها كمية وافرة من الملح ثم يغمرها بزيت الزيتون.
 

أخذنا نحن الغزيّون المغتربون عادة تناول الأكل في "زبديّات" نحضرها من غزّة خصيصاً حتى نعدّ فيها سلطتنا وفولنا وعدسنا.. كان هناك خلاطات نعم وأجهزة أخرى تحل محلها.. ولكن لا شيء كطعم لقمة تأخذها بيدك وتمسح بها حوائط زبديتك.
 

أذكر أيام الأعراس التي مرّت عليّ هناك.. يا إلهي كم هي كثيرة! فالصيف كما في كل مكان موسم. كان الناس يوزعون على الحضور أكواب وكؤوساً زجاجية ملونة بالأزرق والأخضر والأحمر وعليها رسوم ذهبية، مملوءة بحبات من الحلوى أو الفستق المغلف بالسكر (الملبّس)، تلفها ورقة شفافة وكأنها طبقة زجاجية ملونة تجعل الأمر يبدوا ككنز ثمين بنسبة لطفلة في عمري حينها.. كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي.. فأنا لم أدخل غزة منذ الانتفاضة الثانية.. لا تسألوني لماذا فذلك سيدفعني للحديث عن السياسة والضمائر والحقوق.. وأنا كما قلت لا طاقة لي بذلك اليوم.
 

سأحكي لكم قليلاً عن مراسم الترحيب التي كانت تتكرر كلما ذهبنا.. كان هناك نوعان من البسكويت نستقبل منهما كميات خرافية من الزائرين، كان ذلك جزئي المفضل.. أكوام من كعك الشاي و "الويفر" محليّ الصنع وليترات لا تعدّ ولا تحصى من العصير أو المشروبات الغازية.. كنا أطفالاً.. وكنا نلتهم تلك الكميات ثم نخرج لنحرقها ونحترق معها تحت شمس الصيف.. وما أن تنتهي إقامتنا حتى يستحيل لوننا إلى بني محروق كأهل البلاد، ثم نعود إلى خليجنا فتجلونا حوائط البيت وتشحب وجوهنا من جديد.
 

من المهم أن تعرفوا أيضاً أننا كنا نعود بكل ما هو أساسي لمعيشة الفلسطيني في الخارج، لا ليس جواز السفر عديم الفائدة ذاك.. بل أكياس المرمرية المجففة، والزعتر الأخضر.. زجاجات زيت الزيتون المغلقة بعناية بطبقات من الأكياس البلاستيكية والشرائط اللاصقة، زبدية أو اثنتان حسب الحاجة، مغلفات الكاكاو على غير المتوقع، والكثير من حلوى جدتّي لأمي البنفسجية.. لن أحدثكم عن تلك الحلوى فهي شيء آخر لا يمت لعالم الكلمات بصلة.. شيء خرافي لم أتذوق ولا أعتقد أنني سأتذوق مثله مرةً أخرى.. لا أعرف من أي كانت تحضرها.. ماتت جدتي وأعتقد أن تلك الحلوى اختفت معها.. على الأقل بالنسبة لنا.
 

في يوم من الأيام ذهبنا إلى "سوق الأربع"، وهو يوم يتحول فيه أحد شوارع البلدة إلى سوق مفتوح يفترشه الباعة ويكتظ فيه المارة، ذهبنا معاً وكنّا قد استعرنا عربة تجرها حمارة جدّي اسمها "كارّة".. جاء الجنود الصهانية وأطلقوا النار في الهواء هكذا للتسلية ربما.. هاج الناس وماجوا وهرب كلّ بما يحمل أو بعياله.. وضاعت الحمارة.. حزن جدّي عليها كثيراً..
 

أذكر أن أبي استاء للأمر بشدة وأخذ يبحث عن الحمارة.. ويسمع من هذا أنه رآه على الطريق الفلاني ومن ذاك أنها سارت في الاتجاه المعاكس.. ولما فُقد الأمل اشتروا حمارة جديدة.. ليست بيضاء كسابقتها.. كانت بين الرمادية والبنية.. لم أحبها أبداً.. وربما أحست مني بذلك فانتهزت الفرصة في أحد الأيام.. وأنا أمسك بلجامها وأحاول أن أبرهن أنني قادرة على تسييرها كما يفعل أولاد البلد.. وأفلتت منّي وداست بقدمها في بطني وتابعت المسير.. لحسن حظي أنهم لحقوا بها وأمسكوها قبل أن تشرد هي أيضاً.. فنضطر لإحضار ثالثة وحده الله يعلم ما كانت ستفعل.
 

في شارعنا مقبرة للعائلة، نعم أمام بيت جدّي تماماً.. فيها يدفن من يموت من أفرادها.. وإن كنت أذكرها صغيرة الآن.. تقف في منتصفها شجرة عالية خضراء كان الأطفال لا يراعون حرمة الأموات ويربطون فيها أرجوحة يلعبون عليها حتى جاء عمّي في يوم وقطعها ثم ربطها بحجر ورمى بها بعيداً فوق كل البيوت التي نستطيع أن نراها وكل السحابات التي غطتنا.
 

في تلك المقبرة شيوخ وأطفال وشباب.. فيها جندي مصري مجهول بقي هناك بعد واحدة من تلك الحروب الكثيرة.. يقولون بأن لها سوراً عالياً الآن.. لا يمكنك أن ترى ما بداخلها.. لا أحب الأسوار العالية.. لا أراها آدمية.. لماذا ينبغي أن نعزل أنفسنا تماماً خلفها.. كانت من عادات الناس أن يتركوا أبوابهم مشرعة.. لا يغلقونها.. لم يكونوا يخافون.. لا أعتقد أن الأمر كذلك الآن.. لا أعرف هل العيب في جيل أم في الزمن.. على كل حال.. الحياة تمضي.
 

تقودني الذاكرة إلى المعبر التّعيس.. ذلك الركن الكريه.. مرة أخرى السياسة.. الضمير.. الحقوق..
 

غزة.. تنظرون إليها من الخارج وترسمون لها صوراً في أذهانكم تتحدث عن الصمود والشموخ… ولكنكم لا ترون فيها شحوب كل مدينة أخرى أعياها الشحّ، وأنهكها التعب.

حسناً.. لم أعدّ أتحمل تجربة المعبر.. لم أعدّ أطيق أن يتحكم أحد في قدرتي على دخول أرضي.. لم أستطع أن أتقبل فكرة أنني ربما أدخل فلا أستطيع الخروج.. فضلت البقاء خارجاً.. اعتدت البقاء خارجاً.
 

مشهد أتذكره في كل مرة أستدعي صورة المعابر.. أختي الصغيرة في ليلة صيفية حارة.. رضيعة تنتظر مع من ينتظرون بين صفوف القضبان الحديدية والبوابات الفولاذية.. العرق يبلل طبقة الثياب الوحيدة التي تلبسها.. أحملها فيما ينهون معاملاتنا.. جنود لا يعرفون لغة الأرض ولا لون سمائها يحددون لنا متى ندخل وإلى أين نعبر.. "تعال اشرب ميّ" يقول المجند.. لعلّ قلبه رق لمشاهد الصغار.. كنا نحذر بعضنا من شرب المياه.. "أكيد حاطين فيها سمّ، بدهم يضحكوا علينا"، أصارع الخوف ولا ألتفت وأتابع المسير.
 

كنت طفلة في أغلب الوقت عندما عرفت غزة.. كنت أراها "البلد" حيث الأهل والبيت الذي قضى والدي سنوات يبنيه.. مكان نقضي فيه الصيف ونعود محملين بما لذّ وطاب.. كبرت الآن وكبر الحمل.. وصار لي أب وأم وأخوة يسكنونها.. عاصروا فيها حرباً.. وعاشوا مِحن الماء والكهرباء والحركة المستحيلة.. تنظرون إليها من الخارج وترسمون لها صوراً في أذهانكم
 

تتحدث عن الصمود والشموخ… ولكنكم لا ترون فيها شحوب كل مدينة أخرى أعياها الشحّ، وأنهكها التعب.. لا ترون بشراً لهم طبائع الناس كما في كل مدينة.. لا ليسوا ملائكة ولا قدّيسين.. لا ترون فيها ما رأيت.. أعماكم التقديس وأرضى ضمائركم الحديث عن "شرف الأمة" الذي لابد أنه أغلى من كل هذا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.