شعار قسم مدونات

في المسألة اللوثرية في الإسلام.. أو عدنان إبراهيم (1-3)

blogs-عدنان

مدخل التوصيف 
 

في كثير من الأحيان؛ نحتاج إلى الحديث عن شخص ما أو ظاهرة ما باعتبارها نموذجًا موضوعيًّا يمكن من خلاله تقريب تناول مفهوم أو مشكلة نظرية ما. وهذا فضلا عن الأهمية الذاتية لمناقشة تجليات ظاهرة معينة أو أفكار شخص معيّن له تأثير، فنحن لا نعيش في الفراغ النظري بكل تأكيد.
 

تبدو شخصية عدنان إبراهيم فرصة قياسية، إذن؛ للجمع بين هذين الغرضين لتناول مشكلة التجديد والتنوير الإسلامي، متأرجحين بين العامّ بإشكالاته والخاص بسماته.
 

وفي هذا التناول الذي يجمع بين الشخص والظاهرة، سنبدأ بمدخل معياري للتوصيف العلمي، ثم نتبع ذلك بما قد يعتبره البعض النهاية: بالتقييم الإجمالي لطرح عدنان إبراهيم العلمي، وذلك لسبب سنذكره بعد ذلك.
 

من الواجب أن نطرح المسكوت عنه، والمجاب عليه بالإجمال فيما يتعلق بالقضايا المعرفية ذات الطابع الاجتماعي

وأنا حريص في تلك الورقة ألا أقتصر على إصدار الأحكام، ولا التحليل الاحتكاري من طرفي، فقد كان يمكن أن أكتفي بمقال توصيفي مقتضب -مقال رأي- أعرض فيه خلاصة تصوري لظاهرة الشخص، ولكن ماذا سيضيف ذلك أكثر من مجرد رأي شخصي جديد في ركام من الآراء الموافقة والمخالفة؟ نحن في عصر لم يعد فيه من الُمجدي أن نقابل الأطروحات والخطابات بمجرد فتوى أو تسجيل موقف. طبيعة التداول المعرفي، والتأثير الاجتماعي؛ صارت عصية على قبول ذلك الشيء.
 

ولذلك فإنني سأحاول أن أشرك القارئ معي في تحليلي وتوصيفي، والأكثر من ذلك أنني سألتمس أكثر أسئلته إشكالا حول تلك الظاهرة وأجيب عنها بصورة موضوعية أمينة، ومنطقية.
 

من الواجب أن نطرح المسكوت عنه، والمجاب عنه بالإجمال فيما يتعلق بالقضايا المعرفية ذات الطابع الاجتماعي. لم يعد قصْر الخطاب على المتخصصين بسبب أن القضايا اختصاصية؛ أمرًا مفيدًا في هذا العصر.
 

ولذلك فإنني من المؤمنين بوجوب تقديم خطاب معرفي يتوسط بين درجة التقانة المطلوبة في المعرفة بمعناها الفني التخصصي، وبين درجة التسييل الشعبي للمعرفة التي تنشر العلم الزائف أو تقبله، هذا الخطاب المعرفي المتوسط يستهدف فيما يستهدف: تنمية قدرة المتلقي على التمييز، وتجويد أدوات تفكيره الناقد، بقطع النظر عن كونه ليس مختصًّا في علم بعينه.
 

ومن هذا المنطلق فإنني لن أطرح ها هنا خطابًا تخصصيًّا يغرق في المناقشة العلمية لآحاد المسائل التي يقدمها مشروع عدنان، فإن هذا وإن كان أمرًا مطلوبًا؛ إلا أن فائدته بالنسبة للقارئ غير المتخصص -وهم الغالبية العظمى من متابعي عدنان إبراهيم- تبقى محدودةً، لكون القارئ لا يملك القدرة الكافية التي بها يتمكّن من الترجيح بين الآراء العلمية. ولكن نوع الخطاب الذي أتوخى تقديمه: هو الخطاب الذي يجيب عن أسئلة القارئ الحائرة غير المجابة، حول كيف نفكر وكيف نحلل وكيف نقيّم، هذا هو الذي أراه نافعًا في هذا النوع من القضايا المعرفية ذات الطابع الاجتماعي، بالإضافة -بطبيعة الحال- إلى النوع الآخر المطلوب من التعاطي: الجانب العلمي الفني المحض، الذي يقوم بالأساس على ضرورة تجويد المعرفة العلمية لاكتشاف الصحيح منها من الزائف.
 

(2)

درجتيْ العلم والتحقيق قد تجتمعان مع الدعوة والوعظ، فقد يوجد العالم الداعية، وهو أقل من الداعية البحت، وقد يوجد المحقق الداعية

ينبغي أن نفرق بين درجات ثلاث من الاختصاص العلمي، النظري عمومًا، والشرعي خصوصًا بما أنه موضوعنا:
 

الداعية أو الواعظ: وهو شخص مُلِمٌّ بمعلومات دينية، على نحو أوسع من المستوى العام للجمهور، ولكن بصورة غير مؤصلة، ووظيفته: أن يستعملها في الدعوة والتثقيف الديني الذي يحسّن نمط تدين الجمهور ونسيجهم الثقافي والاجتماعي. قد كان هذا يسمى في المدونة التراثية، وفي لسان أكثر السلف: بالقاصّ، وجمعه القُصّاص.
 

ثم العالم: وهو المحصّل علمًا كثيرا في علم فأكثر؛ بصورة مؤصلة: بمعنى معرفة الأصول التاريخية والموضوعية لذلك العلم، مع تدرجه في معرفته، بحيث يكون عالمًا بأغلب مقاصده، فيكون ما يعلمه منها أكثر مما يجهله، ويكون عالمًا بكثير من معلوماته وتفاصيله، مطلعًا على المصادر الأساسية لذلك العلم، قادرًا على الحصول على ما يغيب عنه من التفاصيل والمباحث منها. ووظيفته: بثّ هذا العلم وتعليمه، وفي الغالب أن يضيف إلى بناء ذلك العلم، على مستوى التفاصيل والجزئيات. وهذا العالم نفسه ينقسم إلى أقسام، ولكن هذا ليس من شأننا التفصيل فيه في هذه العجالة. وهو ما يسمى في المدونة التراثية بالفقيه، أو العالم، بمختلف مراتبه دون الاجتهاد.
 

ثم المحقِّق في العلم: وهو العالم الذي يقدر على فحص الأسس، النظرية، والتاريخية، التي تنتج المقولات العلمية، ثم العلاقات بين تلك الأسس النظرية والتاريخية، من جهة، وبين المقولات العلمية المولدة منها، من جهة أخرى، وبين المقولات العلمية وغيرها من المقولات في العلوم الأخرى ذات العلاقة، وعلاقات تأثرها وتأثيرها، من جهة ثالثة. ووظيفته: تتبلور في الإبداع والتجديد، البنائي والنقدي لأصول العلم ونظرياته الكبرى، وما يتولّد منها من فروع وجزئيات. وهو ما يسمى في المدونة التراثية بالمجتهد، بمختلف مراتبه.
 

ثم إن درجتيْ العلم والتحقيق قد تجتمعان مع الدعوة والوعظ، فقد يوجد العالم الداعية، وهو أقل من الداعية البحت، وقد يوجد المحقق -وهو عالم بالضرورة- الداعية، وهذا أندر من السابق، لأسباب شتى. وليس التوسع في ذلك مِن قصدِنا.
 

(3)

خطاب عدنان إبراهيم مجرد خطاب وعظي ليس قائمًا على برهنة ومنهج استدلالي علمي معتبر، وهو مجرد انتقاء معلوماتي يشتغل على استغلال التناقض الظاهري

وفق التصور السابق: ما الدرجة التي يمكن أن ندرج فيها خطاب عدنان إبراهيم؟

الذي نقوله إن خطاب عدنان الديني يقبع في درجة الوعْظ. وهذا ما سنستهدف بيانَه، ثم إشكاليتَه المتمثلة في تضاده مع مشروعه.
فإن هذا هو جوهر الإشكالية، أننا بصدد ظاهرة خطاب وعظ يتبنى مشروع تحقيق وتجديد. مشروعٌ تبنَّى غايةً لا يملك أدوات تحقيقها.
 

من الواضح أن درجة التحقيق والاجتهاد هي شيء بعيد عن خطاب عدنان إبراهيم، مع أنها هدف مشروعه المعلن. فليس لعدنان أي بحث معمق، مكتوب أو متلوّ، في مسألة من مسائل أصول العلم. عامة ما يتكلم فيه مسائل فروعية. وهذا أيضًا بقطع النظر عن قطعيتها من عدمها، ودرجة خلافه فيها من حيث القبول من عدمه. وما تكلم فيه من أصول العلم، على ندرته، كموضوعية الجرح والتعديل مثلا: ليس إبداعًا نظريًّا حرًا، فهو مبني على أبحاث غيره، وليست تلك المشكلة، ولكن أن تلك الأبحاث شائهة بدورها، أو هو مجرد خطاب وعظي ليس قائمًا على برهنة ومنهج استدلالي علمي معتبر.
 

هو مجرد انتقاء معلوماتي، يشتغل على استغلال التناقض الظاهري، والذي يرجع في نفسه لنقص المعطيات، الراجع بدوره للانتقاء، وإقصاء حجج الأقوال التي يزيفها، أو استعراض أضعفها، والرد عليها من أوهى مكاسرها. فضلا عن استغلال الحالة السيئة وفقر الطرح المقابل لطرحه.
 

لماذا خطاب عدنان وعظي؟ لأنه خطاب معلوماتي بالدرجة الأولى، وجزئي فرعي بالدرجة الثانية، بعض المسائل الكلامية، دخول غير المسلمين النار مثلا، حكم ما، الرجم مثلا، حدث تاريخي أو شخصية تاريخية ما، شخصية معاوية مثلا؛ هو مجرد تجميع لأبحاث كتبت في تلك الموضوعات وهي أيضا أبحاث تقوم على إشكالات منهجية وموضوعية كثيرة، ولكن الذي يهمنا ها هنا أن خطابه في تلك المسائل يتصف بما ذكرناه قبلا، من الانتقائية والإقصائية فضلا عن التناقض المنهجي. فنحن على وعي بأن الكلام الفروعي إذا دلّ على جودة واقتدار في الأصول التي يبنى عليها: قد يدل على درجة التحقيق، وهذا هو ما يتخلّف عن خطاب عدنان الفروعي.
 

قد يقدم عدنان بعض السلاسل العلمية، كشرح للتجويد أو المنطق أو العقيدة أو مبادئ الفلسفة، لكنها سلاسل مدرسية محضة، ليست أكثر من تنظيم تقليدي للمعلومات لا يتضمن أي تحقيق أصليّ أو فرعيّ. ولا تفرق تلك السلاسل عن أي درس تسمعه في تلك العلوم، في المسجد إن كانت شرعية، أو في قاعة درس إن كانت فلسفية، لمدرس متوسّط يحضِّر درسه قبل إلقائه.
 

الخطاب المعلوماتي، مهما بدا مبهرًا لم يعد شيئًا مستحيلا ولا حتى صعبًا في عصرنا، بما فيه من إتاحة للمعرفة، ذلك الخطاب هو نفسه نتيجة لما أسميناه تسييل المعرفة في مقال سابق عن سؤال الراهن الثقيل.

ما تقدم حجة إجمالية بطبيعة الحال، ولكنها ستزداد تفصيلا وبيانًا في سياق ما يأتي؛ لأن انتفاء صفةٍ أدنى -كالعالِمية- سيستلزم بالضرورة انتفاءَ صفةٍ أعلى مترتبة عليها، كالتحقيق والاجتهاد.
 

(4)

نقف الآن على أرضية أن خطاب عدنان المعلوماتي يقبع -على الأقل حتى الآن- في منطقة مشتركة بين الواعظ والعالم؛ إذ إن كليهما يمتلك قدرًا من المعلومات، يكفل له أن يكون أعلم من المتلقين، فكيف فرّقنا بين المستويين بحيث حكمْنا أن خطابه خطاب واعظ وليس خطاب عالم؟
 

دليل ما نقوله: أن ما يقدمه عدنان لا يكفل له دعوى العالمية، بل لا يروج على أي مطّلع اطلاعًا متوسطًا. وتطبيق ذلك وآيته: أن قراءة بضعه كتب في مقدمات العلوم، سواء الشرعية، أو الفلسفية، توقف هذا المطالع على حقيقة مستوى خطاب عدنان إبراهيم، وأنه ليس أكثر من خطاب وعظي معلوماتي في المستوى المدرسي منه. ولكن مشكلة غالب جمهور الرجل أنهم ليسوا على ذلك المستوى -المتوسط- من الاطلاع أصلا، فضلا عن شريحة أخرى تهلل له لأغراض براغماتية.
 

ليس لعدنان إضافات يمكن تعدادها كأقوال علمية، إذ عامة ما عنده من مسائل، هي مسائل عادية دارجة في العلم، ولكن اشتغاله فيها قائم على فقر الخطاب المقابل وجموده

ولكن قد يقال: من الجائز أن يكون عالمًا، فإن كثيرًا من العلماء هم في المستوى المدرسي من العلوم، ولا يمنعهم ذلك من أن يكونوا علماء، ولو على هذا المستوى. وهذا صحيح نظريًّا، وذلك من أدنى مستويات العالمية، والذي قد يطلق على أصحابه: عوامّ العلماء.
 

ولكن: المحدد الذي ينبغي أن يتحقق في شخص كي يحرز رتبة العالمية ليس مجرد استحضار معلومات مدرسية، بخاصة إذا لاحظنا أنها معلومات في مستوى ابتدائي، فليس عدنان متقدمًا في أي علم شرعي أو عقلي، بدلالة المعطيات الموجودة في خطابه حول تلك العلوم. فهو خطاب ينطلق من معلومات المتون والكتب الدراسية المختصرة الأساسية في العلوم.
 

المحدد الذي ينبغي أن يتحقق في شخص كي يحرز رتبة العالمية: أن يقدر على الإضافة لبناء العلم الذي هو عالم فيه، ولو إضافات جزئية أو تفصيلية، بمنهج علمي معتبر. وهذا ما ليس بموجود في خطاب عدنان، على المستوى المادي، كميًّا، فليس لعدنان إضافات يمكن تعدادها كأقوال علمية، إذ عامة ما عنده من مسائل، وبخاصة تلك التي اشتهر بإثارتها، هي مسائل دون أصابع اليدين، وبعض ما يثيره هي مسائل عادية دارجة في العلم، ولكن اشتغاله فيها قائم على فقر الخطاب المقابل وجموده، ككلامه في بعض مسائل الزينة مثلا، فهي مسائل خلافية مشهورة. وعلى المستوى النوعي، كيفيًّا، فذلك لأن أكثر تلك الأقوال، وبخاصة تلك الأقوال التي اختار فيها آراء شاذة، لم يسلك في تقريرها منهجًا علميًّا معتبرًا. وسنرجع على ذلك ببعض الإشارات لاحقًا.
 

ولكن كيف نتحقق أن فلانًا عالم أم لا؟، بأسلوب آخر: كيف نتحقق من وجود تلك الصفات من عدمها في خطاب ما؟ الجواب: أن تلك عملية يُعنَى بها، ويقوم بها المتخصصون لا غيرهم، وذلك عن خلال النظر الموضوعي في مشروعه.
 

ولكن: كيف يمكن أن نحدد مدى صدق تلك الأحكام من المتخصصين؟ ثم كيف يمكن أن نضمن حِياد تلك الأحكام؟
هذا ما سنجيب عليه في الجزء الثاني من هذه الورقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.