كي لا تهدد المصالحة القضية بدولة مؤقتة

 

مؤخرا، وفي سياق الجدل حول تشكيل حكومة نتنياهو الجديدة، تحدث أفيغدور ليبرمان -شريك نتنياهو في التحالف الانتخابي (الليكود بيتنا)، ووزير الخارجية السابق- عن رأيه في التسوية مع الفلسطينيين فقال "من غير الممكن حل الصراع هنا. من الممكن إدارة الصراع، ومن المهم إدارته والتفاوض للتوصل إلى اتفاق انتقالي طويل الأجل".

إعلان

بعده بيومين، وفي مقال نشره بتاريخ (11/2) في صحيفة "إسرائيل اليوم" قال يوسي بيلين، السياسي المعروف، والقيادي السابق في حركة "ميريتس" اليسارية، وأحد أقطاب المفاوضات في كامب ديفد صيف العام 2000: "من الواضح أنه (يعني أوباما) لن يجلب معه خطة سلام جديدة، لكنه سيجلب تجديدا فوريا للمفاوضات، وتحديد هدف جديد هو دولة فلسطينية في حدود مؤقتة بدل تسوية دائمة الآن، وإشراك الجامعة العربية في هذه المسيرة يمكن أن يجعل الزيارة (زيارة أوباما) علامة طريق مهمة جدا للمسيرة السياسية في منطقتنا".

يتبدى المشهد السياسي الإسرائيلي من أقصى اليمين (ليبرمان)، إلى أقصى اليسار (يوسي بيلين)، إذ يلتقيان عند نقطة الدولة المؤقتة،  وبينهما يؤكد كل من نتنياهو وباراك على ذات الحل

هكذا يتبدى المشهد السياسي الإسرائيلي من أقصى اليمين (ليبرمان)، إلى أقصى اليسار (يوسي بيلين)، إذ يلتقيان عند نقطة الدولة المؤقتة، أو الحل الانتقالي بعيد المدى (بحسب مصطلح شارون)، وبينهما يؤكد كل من نتنياهو وباراك (العمل) على ذات الحل الذي يكاد يحظى بإجماع الساحة السياسية الإسرائيلية باستثناء بعض قوى اليمين الديني التي قد تتحفظ عليه في معرض المزايدة، بينما تؤيده في الواقع العملي. ولا تختلف تسيبي ليفني التي أعلنها نتنياهو كبيرة مفاوضي الصهاينة عن الآخرين في تبنيها لهذا الحل من حيث الجوهر.

لقد بات واضحا لكل ذي عينين بعيدا عن تسويق الأوهام أن هذا الحل (حل الدولة المؤقتة أو الانتقالي بعيد المدى) يتجاوز لعبة الاقتراحات إلى التطبيق العملي على الأرض، والذي بدأ بعد اغتيال ياسر عرفات وترتيب الوضع للقيادة الفلسطينية الجديدة بدعم من حسني مبارك وأنظمة عربية أخرى، وهي قيادة "واقعية جدا" ترفض الكفاح المسلح، وتصر على التفاوض والحفاظ على السلطة واستعادة ما سُلب منها بعد اجتياح مناطق الضفة الغربية فيما عرف بعملية "السور الواقي" ربيع العام 2002، والتي رد عليها العرب في بيروت بما عرف بالمبادرة العربية التي استعادت روحية القرارات الدولية، مع تنازل مهم يتعلق بحق العودة الذي تراجع من التجسيد العملي، إلى "حل متفق عليه".

إعلان

حل لن يتجاوز حق التعويض في أحسن الأحوال، في ظل إجماع إسرائيلي أكثر وضوحا على رفضه إلى الأراضي المحتلة عام 48 (قالت تسيبي ليفني لعريقات وأحمد قريع كما كشفت وثائق التفاوض الشهيرة إن رقم العائدين إلى مناطق 48 -إسرائيل بحسب تعبيرها- هو صفر، بعد أن وافق شريكها أولمرت على عودة عشرة آلاف على عشر سنوات فيما يعرف بلم شمل العائلات، معتبرة أن ذلك مجرد رأي شخصي له).

منذ استلامها لمقاليد السلطة، وبعد ترتيب أجهزتها الأمنية بإشراف الجنرال الأميركي دايتون، صاحب مصطلح "الفلسطيني الجديد"، وقيادة محمود عباس تبدي وفاءً منقطع النظير للبرنامج المشار إليه (الدولة المؤقتة)، رغم أنها تصر على رفضه في التصريحات العلنية. وسنقول هنا وأجرنا على الله إن الحصول على الاعتراف الأممي بدولة (بصفة مراقب) في الأمم المتحدة لا يبدو خارج هذا السياق أبدا، بل هو جزء لا يتجزأ منه (بإدراك كامل من القيادة ذاتها).

أما معارضة الصهاينة للاعتراف الأممي بالدولة، فلم تكن سوى تسويق له على الشعب الفلسطيني. بل إنني لن أستغرب إذا ما استمر تمرير هذا البرنامج وفق المخطط الذي نتابعه أن تحصل الدولة العتيدة على اعتراف بعضوية كاملة تفضي إلى جعل نزاعها مع جارتها العبرية مجرد نزاع حدودي، وبالطبع بعد أن يتمدد الكيان الفلسطيني إلى حدود الجدار الأمني الذي يعني إبقاء نصف الضفة الغربية بما فيها القدس تحت الاحتلال.

إذا ما تم تبني برنامج الدولة المؤقتة أميركيا بشكل واضح، فقد يتحول إلى واقع فعلي في غضون وقت قد لا يطول

والحال إنه ليس لدى قيادة السلطة غير هذا البرنامج، ولا سيما أنها تدرك استحالة أن يمنحها نتيناهو ما رفض باراك منحها إياه في كامب ديفد 2000.

وإذا ما تم تبني هذا البرنامج أميركيا بشكل واضح (هذا ما تمناه يوسي بيلين من أوباما، أي إطلاق مفاوضات تفضي إلى هذا الحل)، فقد يتحول إلى واقع فعلي في غضون وقت قد لا يطول، مع أن اعتراف السلطة به (صراحة) لن يكون مهما ما دامت تعترف به من ناحية واقعية بتعاطيها مع نفسها بوصفها دولة حقيقية ذات نزاع حدودي مع جارتها.

إعلان

هذا المسار (الدولة المؤقتة) يعني بكل بساطة شطبا للقضية الفلسطينية، وتحويلا لها من صراع وجودي بين محتلين وشعب يقاومهم، يسانده شتات يريد العودة لوطنه، إلى مجرد نزاع حدودي بين دولتين، حتى لو لم تسيطر إحداهما سوى على أقل من 12% من أرض فلسطين التاريخية، دون سيادة كاملة أيضا (قد يتغير وضع القطاع عندها إذا ما تمت المصالحة الموعودة، ويُمنح السيطرة على أجوائه وجزء من مياهه الإقليمية).

الذين تفاوضوا ويتفاوضون في القاهرة لإنجاز المصالحة يدركون ذلك كله، لكنهم يصرون على مصالحة تحت سقفه. بعضهم يريده فعلا (قيادة السلطة) لأنه يراه حدود الممكن مع أنه ليس كذلك، بينما يعول البعض الآخر (حماس تحديدا) على تطورات داخلية وعربية وإقليمية تمكّن الشعب من الانقلاب عليه في وقت من الأوقات، مع سعي من طرفها لاستعادة وحدة الشعب، يصاحبه أمل بإحياء الوضع في الضفة بعيدا عن سطوة الاستهداف من طرف السلطة.

من الصعب القول إن المصالحة تبدو قريبة، فالشيطان الذي يختبئ في التفاصيل يصعّب إمكانية التوصل إليها، ليس فقط لأن من الصعب على حماس أن تعيد الوضع في قطاع غزة إلى ما كان عليه قبل الحسم العسكري منتصف العام 2007، ولكن أيضا لأن الطرف الآخر لا يريد ترتيب الوضع بما يسمح بنشوء أجواء انتفاضة جديدة.

إعلان

وفي سياق الانتخابات لا يمكن القول إن وضع حماس في الضفة يسمح بمشاركة فيها، وهنا أستغرب مطلب الحركة بجعل 25% من مقاعد المجلس التشريعي للدوائر الانتخابية، لكأنها لا تعي ما طرأ على وضع الحركة هناك من بؤس خلال الأعوام الستة، حيث استبيحت من قبل الاحتلال، والأهم من قبل أجهزة السلطة على نحو يصعب وصفه.

وعموما يعتقد عباس (جازما) أن تحالف فتح والقوى المؤيدة لها، سيحصل في الانتخابات على الأغلبية، وهو اعتقاد يبدو صحيحا، لأن حماس هي من أحيا حركة فتح بعد أن كانت في أسوأ حالاتها قبل انتخابات 2006، فيما أصاب الحركة (أعني حماس) ما أصابها من تشويه بسبب الحسم العسكري وما تخلله من إشكالات، وبسبب بعض الأخطاء في حكمها للقطاع (احتفالية فتح في القطاع أكدت قوتها، ونتائج جامعات الضفة أيضا، رغم أن حماس في الضفة ربما تكون في وضع أفضل بسبب فساد السلطة هناك، أعني من الناحية الشعبية رغم ما تعانيه من وضع بالغ الصعوبة على الصعيد التنظيمي).

هكذا تمضي حماس، ربما دون أن تدرك، وربما استنادا إلى طموح تفجير انتفاضة جديدة تهيل التراب على البؤس الراهن، وربما أملا في إعادة تشكيل منظمة التحرير كمرجعية للشعب تتجاوز السلطة، هكذا تمضي نحو تسهيل حل (الدولة المؤقتة) الذي يريده نتنياهو، ولا يرفضه عباس.

إعلان

إذا أرادت حماس أن تحقق مصالح الشعب الفلسطيني بالفعل، ودون مغامرات غير مضمونة، فعليها أن ترفض هذا المسار قولا وفعلا، وليس بالقول فقط، وتطرح مشروعا بديلا للقضية برمتها (تطرحه على الشعب)، وخلاصته مشروع قيادة للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات بالانتخاب الحر (إعادة تشكيل منظمة التحرير)، مقابل قيادة للسلطة يتم اختيارها بالتوافق في الضفة والقطاع، بوصفها سلطة إدارية وليست دولة تحت الاحتلال ليس لها مع جارتها غير التفاوض، مع نضال سلمي بسيط لا يزعج الجيران كثيرا.

ما يحدث مسار عبثي لن يوقفه غير قيادة للشعب الفلسطيني يتم اختيارها بالانتخاب، وإدارة للسلطة في الضفة والقطاع يتم اختيارها بالتوافق، مع إطلاق مقاومة شاملة لتحرير الأرض

على حماس والجهاد أن تتقدما للشعب الفلسطيني بهذا المشروع، وإلا فهما شريكتان في جرم تكريس مسار الدولة المؤقتة، سواء تمت المصالحة، أم لم تتم، وسواء تم انتخاب قيادة للسلطة/الدولة أم لم يتم، بل إن انتخاب قيادة لمنظمة التحرير إلى جانب السلطة لن يغير كثيرا في اللعبة، لأن فتح وحلفاءها سيحصلون غالبا على أكثر من النصف في الضفة وغزة وسيطالبون بترجمتها في الخارج تحت ذريعة عدم توفر فرص الانتخاب في الأردن ولبنان وسوريا والخليج وما تبقى من الشتات الذي يصوت لحماس أكثر من فتح. وحتى لو أصبح لمؤيدي طرح المقاومة نصف المجلس الوطني (مرجعية المنظمة)، فلن يكون من الصعب تهميشه أمام دولة (كاملة العضوية) قد يُعترف بها لاحقا، وتلغي تبعا لذلك، وأقله تهمش منظمة التحرير، كما همّشها أوسلو من قبل ذلك.

إنه مسار عبثي لن يوقفه غير قيادة للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يتم اختيارها بالانتخاب، وإدارة للسلطة في الضفة والقطاع يتم اختيارها بالتوافق، مع إطلاق مقاومة شاملة لتحرير الأرض دون قيد أو شرط، وبعد التحرير وليس قبله تأتي الدولة.

يبقى القول إن الأمل لدى المخلصين يبقى معقودا على قيام الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية بتفجير انتفاضة جديدة ضد الاستيطان والتهويد تشمل كل الأرض الفلسطينية، وتفرض على السلطة وسائر القوى الانخراط فيها، كما انخرطت من قبل في انتفاضة الأقصى نهاية سبتمبر/أيلول عام 2000، وهي الانتفاضة التي يعمل نتنياهو وعباس ومن ورائهم أميركا والغرب على منعها بكل وسيله ممكنة، ولا سيما بعد الآفاق التي وفرها ربيع العرب، ذلك الذي لا يخرج استهدافه (أميركيا وغربيا) أيضا عن تحقيق مصالح الدولة العبرية في المقام الأول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان