"المزج الموسيقي".. مقطوعات فريدة بألحان الموسيقى الشرقية والغربية

“الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا”

إعلان

    

هكذا كتب الشاعر الإنجليزي روديارد كيبلينغ في مطلع واحدة من أشهر قصائده في أواخر القرن التاسع عشر(1) وهكذا كان شكل العالم. شرق وغرب تفصل بينهما الجغرافيا والأيديولجيا والتاريخ وحروب يصعب عدّها. وهكذا أيضا رسمت الإمبريالية الغربية حدودها واضحة في العقول بينها وبين شرق رأت أن علاقتها به ستظل علاقة مُحتَل بمحكوم ولن تتجاوزها إلى ما هو أعمق، لتقابلها على الناحية الأخرى حركات القومية في بلدان الشرق، التي وإن عجزت عن الدفاع عن أرضها، فقد وضعت سياجا حول هويتها لئلا تتأثر بالغرب أو تذوب فيه.

 

إعلان

ولم تشذ أشكال الثقافة والفنون في الشرق والغرب عن ذلك الاختلاف، فظلت الواحدة منهما تنأى عن الأخرى بعد أن وقف بينهما تراث معرفي كامل يضرب بجذوره في عُمق التاريخ. وكانت الموسيقى من الفنون التي ظهر فيها البون شاسع بين العالمين، فبين غرب وُلدت فيه الموسيقى في دور العبادة وظلت تُهيمن على مُستمعيها روح القداسة عندما يستمعون لأنغامها تنتشر من حولهم -حتى بعدما انتقلت من الكنيسة إلى الأوبرا-، وبين شرق عربي ظلت فيه الموسيقى نديمة مجالس الأنس والطرب ترافقها الرقصات والأغنيات وتحمل مُستمعيها على السلطنة وصيحات الاستمتاع، بدا أن لا سبيل لرتق الفجوة. لكن هذا لم يُثن البعض عن المُحاولة.

     

ظلت مُحاولات التقريب بين موسيقى الشرق العربي وموسيقى الغرب محدودة ومقصورة على الشرق وحده، وحتى في الشرق لم تلق الكثير من الترحاب، فظل النقاد والموسيقيون طويلا يرمون من تتأثر أنغامه بموسيقى الغرب بالتقليد وعدم الأصالة. سيحتاج الأمر إلى سنوات طويلة والإلمام بثقافة موسيقية واسعة لا تتوقف حدودها على بلد بعينه ليخرج من الموسيقيين من يُثبتوا أن تأثرك بموسيقى غيرك من الشعوب ومزجها مع موسيقاك الخاصة أبعد ما يكون عن التقليد، بل قد ينتج عنه موسيقى فريدة، تُثري التراث الموسيقى الشرقي من ناحية، وتفتح آفاق واسعة أمامه في الغرب من الناحية الأخرى.

 

ربما من أول وأبرز محاولات المزج والتقريب كانت ألحان فريد الأطرش -وبالذات مُقدماته الموسيقية-، فتقول الناقدة الموسيقية سمر محمد مليان عن تجربته: “فريد الأطرش هو النموذج الأمثل لهذا الانصهار بين الثقافات الموسيقية المتعددة والمتنوعة وأفضل من سكبها في نهر الموسيقى العربية حتى انسابت في مجراه كأحد مكوناته من دون أن تذوب فيه، بل نشعر بوجودها ونلمح طيفها كظلال تلوح من بعيد”.(3)

 

إعلان

ففي أغنية مثل “بنادي عليك”، استطاع فريد أن يوظّف الأوركسترا الغربي في عزف اللحن الشرقي. وفي أغنية “نجوم الليل”، ينتقل بخفة بين الدخلة التي تعزفها الكمانات والبيانو وآلات النفخ في لحن غربي كلاسيكي وبين دخول الآلات الشرقية كالطبول والقانون وما تضفيه على اللحن من شجن شرقي أصيل.(4)

     

إعلان

    

ويظل لحنه للتانجو “يا زهرة في خيالي” من أبرز الأمثلة على استطاعة اللحن الجميل أن يُطوع حدود الثقافة واللغة ويقفز عبر مسافاتهما. فقد لعبت أوركسترات عديدة في بلدان مُتفرقة تلك الأغنية، مع الاحتفاظ بكلماتها العربية الأصلية أحيانا، ومع استبدالها بأخرى مُترجمة أحيانا أخرى.

إعلان

   

إعلان

            

إعلان

      

أتت محاولة رتق المسافات التالية هذه المرة في القلب من جبال لبنان، على يد ثلاثي الرحابنة: عاصي ومنصور وفيروز. ولكونها كانت أكثر راديكالية في ابتعادها عن الطرب الشرقي القديم واقترابها من الموسيقى الغربية الحديثة فقد نالت رصيدها الوافي من الهجوم.

 

إعلان

ففي عام 1952 أدلى عاصي -الشاب آنذاك- بتصريح فتح عليه بوابات الجحيم. قال عاصي: “لماذا (ندعو) إلى الغناء القديم، وعلى الطريقة القديمة، ونحن نسير إلى الأمام؟ الغناء القديم، غناء سلامة حجازي، والحمولي، وأبي العلاء محمد، ومنيرة المهدية، وسيد درويش، هؤلاء وغيرهم يمثلون مرحلة من مراحل تطوّر الغناء عند العرب، وقد انطوت هذه المرحلة بانطوائهم، وحلّت الآن مرحلة جديدة لا تمت إلى الغناء القديم بصلة”.

 

وردًّا عليه، قال الموسيقيّ سليم الحلو: “بعدما طغت الموسيقى الدخيلة على العربية الأصيلة، وعمّ طغيانها على بعض الأقطار العربية في الآونة الأخيرة، رأيت أنه لم يبق من مجال للسكوت”، ووصفه بعدها بالمُقلد المُستغل لحب البسطاء للموسيقى الراقصة. وقال عنه المُطرب يوسف فاضل: “استغرب كيف يتطاول الأستاذ رحباني على فنانين عِظام ملأوا الدنيا بألحانهم، وهو لا يزال يحاول عمل شيء في الموسيقى”.

إعلان

 

ولم يكتف عاصي بالتأثر بالألحان الغربية ودمجها في أغنية شرقية، بل ذهب إلى حد اقتباس بعض الألحان الغربية الشهيرة وتعريب كلماتها، الأمر الذي أزكى نيران غضب أنصار الطرب الشرقي التقليدي على مدرسته الموسيقية المُختلفة بشكل جِذري عن كل ما قبلها.

 

إعلان

لكن الوضع المُتحفز لأغنيات الرحابنة لم يبق طويلا كما هو، فقد نالت بعض من ألحان الرحابنة المُعرّبة قسطا من الشهرة استطاع أن يُغطي على صيحات الانتقاد. وعلى رأس تلك الألحان لحن “يا أنا يا أنا” المُقتبس عن السيمفونية الأربعين لموتسارت.

        

إعلان

   

إعلان

    

بعد عشرين عاما من تصريحات عاصي تلك، والتي رأى فيها البعض انحناء للطرب الشرقي الأصيل أمام الموسيقى الغربية الوافدة، أصدر الرحابنة رائعتهم “حبيتك بالصيف” والتي لاقت نجاحا مُدويا في العالم العربي وصلت أصداؤه إلى أوروبا نفسها. ففي عام 1973 اقتبس المُطرب الفرنسي جان فرانسوا مايكل لحنها في أغنيته “Coupable” بعد أن وُضعت لها كلمات فرنسية، لتُثبت تلك الأغنية أن التأثير الموسيقي بين الشرق والغرب من الممكن أن يسير في كلا الاتجاهين.

إعلان

    

إعلان

           

إعلان

         

ولم تضع أغنية “حبيتك بالصيف” النهاية للأغاني العربية التي استطاعت أن تحلق بعيدا عن بلدها، فبعدها بخمسة وعشرين عاما سيُطلق مُغنٍّ شاب مصري أغنية سيقتبسها فنانون بشرق العالم وغربه. هذا الشاب هو عمرو دياب بأغنيته “نور العين”، والتي كان تأثيرها العالمي بمنزلة سابقة.

 

إعلان

تميزت الأغنية بأسلوبها المُبتكر الذي جمع ما بين الفلامنكو الإسباني واللحن الشرقي، ليكوّنا معا مزيجا فريدا لفت إليه الأنظار وأغرى كثيرين لاقتباسه.

         

إعلان

    

إعلان

       

إعلان

      

كرّست تلك الأغنية لعمرو دياب كمغنٍّ يتجاوز تأثيره الدول الناطقة بالعربية، وكانت السبب في فوزه بجائزة الوورد ميوزك أوورد، كما شاع اقتباس أغانٍ كثيرة تلتها، أبرزها “تملي معاك” والتي صنعت من ألحانها فرقة الهيب هوب الاستكتلندية “Outlandish” أغنيتها الإنجليزية “Calling U”.

إعلان

    

إعلان

         

إعلان

        

ظل تأثير الموسيقى الغربية في الشرقية مُتصلا، هذه المرة في هيئة فرق الأندرغراوند الشابة والتي اختار الكثير منها عزف الروك، مُؤلفا أغانيه بنفسه بعيدا عن الاقتباس. لكن، حتى الآن، لم يصل أحدها إلى النضج الكافي الذي يسمح لها بالتأثير في المشهد الموسيقيّ العالمي.

 

ويظل التراث الموسيقي الشرقي عصيًّا على النسيان، حيًّا في وجدان العالم أجمع. ففي العام الماضي، أحيت أوركستيرا “Les Siecles” إحدى حفلاتها في “Philharmonie de Paris” -أضخم قاعة حفلات موسيقية في فرنسا-، لتكون “لمّا بدا يتثنى” الأندلسية واحدة من مقطوعات العرض. في مشهد مهيب، وقف موسيقيون من جنسيات مُختلفة جمعهم عشق واحد للموسيقى الجميلة أنّى جاءت، وفي صوت واحد أخذ الكورال يُغني:

  
“لما بدا يتثنى

أمان أمان أمان

أمان أمان

حبي جماله فتنا

أمان أمان أمان
 أمان أمان”

    

المصدر : الجزيرة

إعلان