ما دور مسلمي أوروبا في حماية البيئة؟

البيئة التي يجب أن نحفظها ونرعاها هي كل عناصر الكون ومكوناته، من شمس وقمر وهواء وماء وأرض وسماء (غيتي)

ينام العالم ويصحو على وقع أزمات وكوارث طبيعية لا تنتهي، ورغم صيحات الإنذار التي تطلقها المنظمات الدولية المهمومة بملف البيئة فإنها تذهب كثيرا كنفخةٍ في رماد أو صرخةٍ في واد.

وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية، توقع تقرير جديد صادر عن خبراء المناخ في الأمم المتحدة أن يرتفع الاحترار العالمي بمعدل 1.5 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية قرابة عام 2030، أي قبل 10 سنوات من آخر التقديرات التي وضعت قبل 3 سنوات، ما يهدد بحصول كوارث جديدة "غير مسبوقة" في العالم الذي تضربه موجات حرّ وفيضانات متتالية.

إن تعليقات المنظمات الدولية والكتاب والصحفيين حول أسباب تلوث البيئة بكل مكوناتها يعود إلى ما أنتجته يد البشر الذين لم يفوّتوا فرصة للقيام بمهمة إفساد الأرض.

إعلان

البيئة التي يجب أن نحفظها ونرعاها هى كل عناصر الكون ومكوناته، من شمس وقمر وهواء وماء وأرض وسماء وجبال وبحار وأنهار ونبات وطيور وحيوانات وكائنات حية.

إنني لم أقصد من كتابة هذا المقال تأصيلا شرعيا لرعاية البيئة في الإسلام، ولا استقراءً وتتبعا وحصرا لصور الضرر الذي أصاب الأرض، فهناك مؤسسات دولية عالمية ومحلية بذلت جهودا متتابعة في هذا المضمار، فعقدت مؤتمرات على مستوى الدول والحكومات وخرجت بنتائج وتوصيات يجب أن يلتزم بها الجميع، مثل قمة المناخ التي انعقدت في باريس نوفمبر/تشرين الثاني 2015، والتي أعلن الرئيس الأميركي السابق ترامب لاحقا انسحاب الولايات المتحدة منها.

كما عُقدت ندوات ولقاءات كثيرة في العالم العربي والإسلامي، وصدرت كتب ودراسات علمية متخصصة حول علم البيئة والتلوث البيئي ومآلاته، ودراسات عن الاحتباس الحراري، والطاقة البديلة، وكل فروع المعرفة المتصلة بالبيئة، كما صدرت دراسات شرعية تأصيلية وعُقدت ندوات ومؤتمرات دولية برعاية العديد من الدول العربية والإسلامية، ومن الكتب ذات الصبغة الشرعية: كتاب رعاية البيئة في الإسلام للإمام القرضاوي، وألَّف أستاذنا الدكتور عبد المجيد النجار كتابه "مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة" ووضع فصلا عن مقصد حفظ البيئة. وهناك اهتمام في أقسام الدراسات العليا بالبيئة من منطلق مقاصدي.

إعلان

أخطار متجددة

أصبح واضحا للعيان ما يعانيه العالم من آثار تدهور المناخ، وما حرائق الغابات المدمرة التي اندلعت مؤخرا بتركيا واليونان والجزائر عنا ببعيد.

هذا، وقد قصدت التذكير بخطورة هذا الملف الكوني، وبدورنا في أوروبا، ودور المؤسسات الإسلامية، وذكرتُ عددا من الأفكار والمقترحات.

إن مظاهر الفساد والاعتداء على الطبيعة لا حصر لها، فغاباتٌ غنّاء تُحرق فتغدو أثرا بعد عين، وحيوانات برية وبحرية مهددة بالانقراض، ونباتات تهلَك، وهواء يزكم الأنوف، وماء يتلوث، وانهار تجف، وبحار ومحيطات تتحول مقبرة للأسماك، وأرض تضم نفايات نووية تهدد الأجيال.

جهودة مسلمي أوروبا بين الواقع والمأمول

يزداد وعي مسلمي أوروبا بالأخطار التي تحيط بالبيئة ولا سيما الأجيال الجديدة التي وُلدت هنا، فهم جزء من المجتمع الذي ارتفعت فيه الأصوات وانطلقت فيه المؤسسات لوقف نزيف مقدرات الكون.

ويمكن أن نذكر جملة من الجهود المؤسسية والمبادرات الجادة لخدمة هذا الملف على الساحة الأوروبية، منها:

– إطلاق مؤسسات تُعنى بالبيئة يقوم عليها شباب مسلم يمتلئ حماسا وهمة ونشاطا ورغبة صادقة في حماية البيئة، وهناك نماذج رائدة مثل مؤسسة "حماء" (Hima) في ألمانيا التي يقوم عليها الشباب ويقدمون مشروعات توعوية على مدار العام، و"نور إنرجي" (NOURENERGY) بمدينة دارمشتات التي تبعد عن فرانكفورت 30 كيلومترا وتُعني بالطاقة، وقد أطلقت مبادرات نوعية منها مشروع "المسجد الأخضر"، كما أطلقت مبادرة في السنوات الماضية تدعو المسلمين في شهر رمضان لعدم استعمال البلاستيك "رمضان دون بلاستيك" ونالت استحسانا وتفاعلا طيبا، لكن ما زال هناك ضعف في الوعي بخطر استعمال البلاستيك.

إعلان

وأزعم أن أكثرنا لا يعلم ماذا يسبب البلاستيك من أضرار كبيرة على البيئة والكائنات الحية، وأعترف أنني -قبل كتابة هذا المقال- لم أكن على علم عن تلك الأضرار المذهلة:

وفقا لدراسة أعدتها الأمم المتحدة، يوجد ما يصل إلى 18 ألف قطعة بلاستيك في كل كيلومتر مربع من المحيطات. وتقع الحيوانات مثل الأسماك أو السلاحف باستمرار ضحية لهذه القطع البلاستيكية حيث تتغذى عليها وفقا لمنظمة "السلام الأخضر" (GreenPeace).

ويمكنك عبر محرك البحث "غوغل " أن تطالع مقالات أو تشاهد برامج على اليوتيوب لتقف على الأضرار الكارثية على الإنسان والحيوان والطيور والكائنات البحرية وعلى التربة وعلى صحة الإنسان.

إعلان

لقد نجحت الدول الكبرى في الحد من استعمال البلاستيك واستبدال الورق المقوى به، لكن ماذا عن بقية دول العالم؟

إننا لا نعفي الدول الكبرى من المسؤولية عما حدث ويحدث في البيئة في فساد، وعليها أن تكون جادة في الالتزام بالقرارات الدولية، كما يجب عليها أن تحد من الاستهلاك واستعمال الأيدي العاملة قليلة التكلفة على حساب البيئة وصحة الإنسان.

ولا يفوتني الإشادة بحملات غرس الأشجار في الغابات التي تقوم بها مؤسسات إسلامية عديدة مثل مؤسسة الرائد في أوكرانيا واليونان وغيرهما من الأقطار.

إعلان

ماذا يمكن أن يقدم مسلمو أوروبا لحفظ البيئة؟

لا مراء في أن الدول الصناعية الكبرى والغرب عامة عليه أن يتحمل المسؤولية الكبرى في حماية الكوكب الذي نسكنه من خلال الالتزام بمقررات مؤتمرات المناخ وسن القوانين والتشريعات الملزمة، ولا نغفل عن جانب التثقيف الجماهيري ودور المدارس والجامعات في بث الوعي العام.

وبناء عليه فإن مسلمي أوروبا والغرب جزء من المجتمع وطبيعته الاستهلاكية، فعليهم أن يقوموا بدورهم في التوعية والتثقيف والأخذ بزمام المبادرات التي تسهم في صناعة مستقبل صحي للعالم.

الإنسان هو مركز المشكلة والحل

الإنسان هو المشكل وهو الحل في الوقت ذاته، لذلك تأتي التوجيهات القرآنية والنبوية لتُحَمّل الإنسان المسؤولية عن الكون والمحافظة على مقدراته والقيام بحق الخلافة في الأرض واستعمارها كما قال تعالى "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ" (سورة هود: من الآية 61).

إعلان

وعلى المرء أن يرُد كل خلل وفساد في البيئة إلى نفسه أولا، قال جل شأنه: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (سورة الروم: الآية 41).

كما على المرء أن يرد الأمر إلى أنانيته التي تُعمي عينه عن إبصار مواضع قدميه، ففي سباق الاستهلاك المحموم يظن الإنسان أن صناعة اللحوم في أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو استهلاك الملابس على نحو مبالغ فيه لن يتعدى أثره مواطني الغرب، ناسيا أو جاهلا أننا نعيش في كوكب واحد وعلى أرض واحدة، فكل قطرة ماء تُراق في غير موضعها في بقعة من الأرض يتعدى ضررها إلى الطرف الآخر من العالم.

وكل شجرة في غابة تُقطع في غير ضرورة تصيب الكون بالاختناق.

إعلان

كما أن كل مساحة خضراء تضيف للبيئة انتعاشا، وكل ترشيد في استهلاك الطعام والشراب واللباس والمركب والأجهزة الإلكترونية تجعل رئة الأرض أكثر راحة وصحة.

دور الأئمة والدعاة

يشكل التوجيه الديني الحيز الأكبر من التأثير في سلوك  ومشاعر وبناء قناعات الجماهير، وإننا بكل اعتزاز نؤكد أنه لا يوجد كتاب سماوي أعطى للكون ومكوناته اهتماما ورعاية وعناية مثل القرآن العظيم، ونذكر في هذا المقام العبارة المشهورة لشيخنا محمد الغزالي: "أن الكون قرآن صامت والقرآن كون ناطق"، فكيف لمسلم يقرأ كتاب الله تعالى بقلب حاضر وعقل متأمل، فيقطع شجرة، أو يقتل حيوانا في غير ضرورة، أو يلوث نهرا، أو يفسد ماء.

لقد صنع القرآن الكريم علاقة راقية دقيقة المشاعر بين المسلم والكون، فأنت تشعر بقرابة روحية بينك وبين الأشياء من حولك، فالشجر والحجر والجبال والأنهار والوديان والنباتات والحيوانات والطيور والسماء والأرض وسائر المخلوقات كلها تسير معك إلى وِجهة واحدة، وهي العبودية لله تبارك وتعالى، واقرأ قول الله عز وجل:

إعلان

"وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ" (سورة الرعد: الآية 15).

وكذلك قوله عز شأنه: "أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" (سورة النحل: الآيتان 48 – 49).

هذه الآيات الكريمة وغيرها تجعل المرء ليس فقط صديق البيئة بل أنيس البيئة، يأنس بها وتأنس به، يسكن قلبه وعينه وروحه معها وتطمئن هي في جواره وتفرح به.

إن دور الدعاة كبير في توجيه الجماهير نحو رعاية البيئة وحمايتها، وذلك عبر خطبة الجمعة والمحاضرة والندوات وورش العمل، وما أجدر أن يقود الإمام والداعية مبادرات نوعية لتكون رسالة حقيقية تغني عن كثير من القول.

ختاما أقول

إننا نتعبد لله تبارك وتعالى بكل فعل أو ترك يحفظ للأرض جمالها وبركتها ونقاءها ويدرأ عنها الفساد.

حينما نسقي شجرة فإننا نستشعر أنها روح ونحتسب فيها الأجر من الله العلي الكبير، وحينما نطعم عصفورا فإنما لكونه شريكا لنا في عبوديته لله تعالى، وإذا غرسنا غرسا فإننا نغرسه لمن يأتي بعدنا من الإنسان والطير وسائر المخلوقات، ولعل من أعظم الدلالات على مكانة الغرس والتشجير حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها)، رواه البخاري في الأدب المفرد.

لقد أُهبِط أبونا آدم -عليه السلام- إلى الأرض وهي مباركة نقية طاهرة، بلا عوج ولا فساد، وهذه الأرض أمانة في أعناقنا، ونحن على ظهرها مستخلَفون ولا يليق بنا إلا أن نسلمها لمن يأتي بعدنا وهي جديرة بالحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان