الشعر والصحراء.. قصة عشق بين حبات رملٍ وكلمة!

"للصحراء أثر واضح في الشعر العربي، ولاسيما الشعر الذي قيل على أديمها، والشعر الذي تأثر به في العصور الأولى"

حمد الدخيل

   

إعلان

لطالما ارتبطت الصحراء في مخيلتنا بالشعر والشعراء بالنظر الى عدد الشعراء الذين سكنوا الصحراء وعاشوا فيها مند القِدم، سواءٌ في صحراء الجزيرة العربية او صحاري أفريقيا حتى سميت موريتانيا ببلد "المليون شاعر"، هذا صحيح الى حد ما، فساكن الصحراء يعيش حياته متأملا في الأفق، زاهداً في مشاهد الدنيا، غارقاً في التأمل، متصوفٌ بالسليقة،  لا يحجب عنه الرؤيا بنيانٌ ولا عمران، كأنَّ حباتَ رملها تنصهر مع الكلمات، لتعطي للقصيدة إحساسًا عميقاً ينهل من دفئ الطقس والكثبان الرملية،  ما يجعلنا نتساءل عن هذا التمازج بين الجغرافيا وقريحة الإنسان…؟

 

الصحراء العربية وشعر الصعاليك
إعلان

العرب من أكثر الشعوب قولاً للشعر، بل لا توجد أمة على وجه الأرض تفوقت عليهم في نظمه، فقد كان الشعر دستورهم وديوانهم وجعلوا له سوقاً (عكاظ)، وشبه الجزيرة العربية هي الرقعة الجغرافية التي وجد فيها العرب في البداية وهي حاضنة صحراوية تتميز بقحالة تضاريسها وشساعة صحاريها وفيها عاش شعراء العرب الكبار أمثال الشاعر الأمير أمرئ القيس وعمرو ابن كلثوم والمتنبي والمعري وغيرهم كثير، يقول للشاعر شوقي عبد الأمير في قصيدة "الصحراء والقيثارة":

أيتها الصحراء العربية

عرفتُكِ فى النبؤات

عرفتكِ فى الظمأ والقحط

وعرفتكِ فى قوافل الشعراء

أيتها الصحراء

إعلان

يا خِباءَ طرفة

يا خمرةَ امرئ القيس

وحصانَ عنتر

إعلان

وغضبةَ بن كلثوم

ويا ليلَ النابغة

أنتِ يا أمّ اللغة العظيمة وحنجرةَ السماء

إعلان

 

كان امرئ القيس شاعراً متمرداً على ترف العيش في قصر ابيه الملك، عاش في البيداء يناجي الليل ويتحرش بالحسنوات،  عاش بين خمرة الحب وألم الانتقام لروح أبيه المغدور، لم ينل شيئاً من ذلك في النهاية سوى قصائد كثيرة مشبعة بالوحدة والصحارى التي عشقها عن القصور فاستلهم منها شعره :

"يجول بآفاقِ البلاد مغرباً

إعلان

وتسحقه ريح الصبا كل مسحق"

 

غنى عنثرة بن شداد عن حبيبته السوداء في بلاد الحبشة(السودان):

إعلان

"يقولون عنكِ سوداءٌ حبشيةٌ/ ولولا سواد المسك ما انباع غاليا"

عاش الشعراء الصعاليك في الصحراء العربية منتشين بصمتها وهدوئها، يصفون فريستهم ويبكون على الأطلال تارة ً ويتغزلون بحبيباتهم تارة أخرى، يكاد الدارسون يجزمون بأن شعر ما قبل الإسلام هو شعر صحراء (الشعر الجاهلي)، لم يتمدن الشعر العربي ويتغير نمطه سوى مع مجئ الإسلام وما تلاه، حيث لم يبقى مكانٌ للشعراء الصعاليك الا فيما ندر وهناك حالات قليلة كحالة " أبي نواس " الذي اعتبر شاعر المجون والهزل.

  

إعلان
الثقافات والعادات واللهجات الأفريقية بعيدة كل البعد عن الثقافة العربية وأصولها، لكنهما تقاطعتا في حقب زمنية معينة مع انتشار الإسلام في غرب أفريقيا
الشعر الحساني من الصحراء وإليها

تقتفي الثقافة الحسانية أثرها من الشعر في كل مناحي الحياة، يقرض الانسان الصحراوي الشعر في حديثه اليومي مع التاجر والعامل والصديق وفي المناسبات والأعراس والأمداح والمناجاة حتى في لحظات الحزن، ينتشر الشعر الحساني جنوب المغرب وفي موريتانيا كما يسميها أهلها بـ"أرض البيضان"، ويعود نسبهم(بنوحسان) الى شبه الجزيرة العربية إبان هجرة القبائل العربية مع بداية الفتح الإسلامي، وهذا يعطينا انطباعاً ان الشعر هنا ليس وليد الصدفة. لكنه ممتد في التاريخ والجغرافيا والإرث العربي الذي انتشر في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء.

إعلان

 

 

ومن أكثر المشاهد جمالية وإبداعًا، مشهد خيمة في الصحراء تحتضن عرساً صحراويا بين أهلي العروسين،  يتطوع واحد من أهل العروسة وآخر من عائلة العريس يتجاذبان أطراف الشعر،  مقطع شعري مقابل اخر وكل يمتدح قبيلته واصله وميزاته مع ما يميز هذه المناظرة الشعرية إن جاز التعبير من تشجيع ومستملحات تدفئ طقوس أعراس الصحراء، في الصحراء يصير الكل شاعراً،  اعتدال المناخ وهدوء الكثبان وضوء القمر الكل يواطئ عليك لتكون شاعرًا مع سبق الإصرار والترصد، ومن يترفع عن الشعر او غاياته يصير اجنبيا دخيلا على الثقافة الحسانية او مترفعٌ عنها.

إعلان

 

في أفريقيا يتوقف الزمن حتى يكمل الشاعر قصيدته

صحيح أن الثقافات والعادات واللهجات الأفريقية بعيدة كل البعد عن الثقافة العربية وأصولها، لكنهما تقاطعتا في حقب زمنية معينة مع انتشار الإسلام في غرب أفريقيا وبرزت دول وإمبراطوريات كمملكة "غانة" وإمبراطورية "مالي " التي جاءت على أنقاضها، وسيمكن انتشار الإسلام هذه المناطق البعيدة جغرافيّاً من تذوق الشعر العربي فيما يتعلق بالإمداح النبوية التي ابدع فيها الشعراء الأفارقة أشد إبداع مع لكنة لهجاتهم المحلية التي جعلت لعربيتهم ميزة خاصة.

يقول محمد كاسو جابي وهو شاعرٌ من غينيا كوناكري في إحدى ابتهالاته:

ولكم دعوتُكَ باسم ذاتك مؤمناً/أدعو مُقِرّاً بالوجود المُشْرِف

بسواك لَمْ أهتِفْ فَوَاصِلْ بالرضى/عبداً بغير إلهه لم يَهْتِف

 

ويقول الشاعر النيجيري " عبد الله بن فوذي":

كـمْ سُـنَّةٍ أحييْتَهـا وضـلالـةٍ / أَخْمَدْتَها جَمْـراً ذكـا بِتَأَجُّـج

وظللتَ في أرضٍ عوائدُها عَدَتْ/ وتخالفـت سـننُ النبي الأبهـج

 

كانت أجواء الصحراء وطقوسها كفيلة بخلق وولادة شعراء كبار أغنوا الثقافات الإنسانية برمتها، ما يجعلنا نفترض جدلاً انه كلما رأيت صحراء الا وجدت جماعة من الناس يقرضون شعراً فوق رمالها والقمر الساطع شاهدٌ عليهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان