رحلة مخاض.. الرحلة القاسية اللذيذة معا

قبل تسعة أشهر من الآن بدأت رحلتي مع تلك النطفة وهي تنمو وتكبر بأحشائي فيكبر معها بطني رويدا روديا حتى أصبحت روحًا تسبح بداخلي وتستعد للخروج، تسعة أشهر والشوق يحرقني لحمله بين ذراعاي وضمه إلى صدري للتأمل في ملامحه وطبع قبلة دافئة على جبينه، كانت رحلة شاقة نفسيًا وجسديًا، لقوله تعالى "حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ". ضقت ذرعا ونفذ صبري وأنا أنتظر يوم قدومك، مشاعر مختلطة بين الخوف والفرح، خوف من المخاض وفرحة حين أتخيلك بين ذراعاي بحجمك الصغير.

ذات مساء باغتني ألمٌ رهيب لم أعهده طيلة فترة حملي، ألم لو خنعت له لوقعت ساجدة على الأرض، استمر بي ذلك الألم، وقد حاولت جاهدة أن أتحمل وقررت ألا أذهب إلى المشفى إلاّ حين أصل إلى ذروتي، كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساءً، بقيت على حالي كابتة ألمي ولم أظهره لأحد، حتى بدأت علامات قرب الولادة بالظهور، من إسهال وقيء وألم جامح يقطع أحشائي، لم أعد أدرك ما يجول حولي، غصت في بحر الآلام، أشد في الوسادة الّتي بقربي وأحاول التنفس بعمق علّ الألم يخف حتّى ضعف أهلي أمام ألمي وحملوني إلى المشفى.

عند ذهابنا لم يكن يشغل بالي إلا الأسلوب الذي يتعامل به ممرضات قسم التوليد مع النساء، فهن عنيفات جدا وكأن لا رحمة في قلوبهن، يشتمن ويقسون وأحيانا يصل بهن الأمر إلى الضرب، وهذا أكثر ما كان يخيفني، بل كنت خائفة منهن أكثر من خوفي من الولادة بحد ذاتها. طوال الطريق كنت إما أقبل أمي من شدة الألم أو اقرصها فتضحك، أمّا والدي فقد رأيت خوفًا رهيبًا يرتسم على وجهه وكأنه لم يشهد مثل هذا الموقف من قبل. وصلنا رأتني الممرضة فأخبرتني أني في المراحل الأولى من المخاض وأن أعود غدًا صباحًا فلن ألد الليلة، عدنا إلى البيت كانت الساعة حينها في حدود العاشرة ليلاً.

إعلان

كنت من هول الألم وقوته أضرب الحائط بكفي حتّى أنها تورمت دون أن أنتبه لها، أو أشد الستائر التي بمحاذاتي بشدة ثم أنتبه لما أفعله خوفًا من تمزيقها

بت ليلتها أتلوى من شدة الألم أتقلب يمنة ويسرى علّ الوجع يخف، حاولت جاهدة أن أفكر بشيء ينسيني وجعي فبدأت بحساب الوقت الذي يفصل بين كل انقباضة، ثم فتحت الفيس بوك لأحدث أي شخص ينسيني ألمي ولو قليلاً إلى أن تجاوزت الساعة الثانية عشر ليلاً، خارت قواي ولم يعد بمقدوري احتمال المزيد حتّى أني وقعت ساجدة من شدة الألم. وصلنا إلى المشفى وما إن رأت ممرضة التوليد تقريري الطبّي حتى اخبرتني أنه يجب أن تراني الطبيبة وأنها غائبة، فما كان منّا إلاّ الذهاب لمستشفى آخر، دعوت اللّٰه أن أجد ممرضات لطيفات يساعدنني في الولادة ولا يقسون عليّ وهذا كان جل تفكيري.

إعلان

وصلنا، كانت ممرضة الاستعجالات نائمة وقد أيقظتها فقابلتني بوجه عابس ألقت نظرة على ملفي الطبي ثمّ فحصتني بقسوة فاستبشرت خيرًا، طلبت مني الذهاب لقسم التوليد، لم أعد قادرة على المضي خطوة واحدة إلا أني كنت اعلم أن الرحلة ما تزال في بدايتها وأنه علي التحلي بالقوة، وصلت لقسم التوليد بين صياح تلك وتأوهات تلك، تملكني الخوف دخلت لغرفة الفحص فحصتني الطبيبة فطلبت منّي البقاء، أحضرت حاجياتي من السيارة وسط خوف شديد مما هو قادم، كانت هناك امرأة لا تكف عن الصراخ، حاولت الطبيبات جاهدات أخذها للفحص ليعرفن في أي مرحلة من المخاض هي إلا أنها أبت التحرك من سريرها، نسيت ألمي وأخذت أراقبها وأراقب ردة فعل الطبيبات معها، كنت مستلقية اغمضت عيناي وحاولت كبح ألمي وبقيت على هذا الحال أصارع الألم وهو يصارعني أحدث ثواب وأرجوه ألّا يؤلمني وأن يستعجل بخروجه فآلام ما قبل الولادة مؤلمة جدًا.

أنهض بين الفينة والأخرى للمشي في القاعة وألقي نظرة على الأطفال حديثي الولادة في الغرفة المقابلة مستلقين بالقرب من بعضهم البعض يحركون أناملهم الصغيرة فابتسمت متخيلة ثوابي وهو مستلقي بينهم، بت على هذا الحال حتى الصباح وبات الوجع يزداد مع مرور الوقت، كنت مرهقة بشدة أما النعاس فكلما حاول التمكن مني اجتاحني الألم فيغادرني هو، كانا يأتيان تباعا، فينتهز النوم الفرصة ليأخذ نصيبه مني في تلك اللحظات القليلة التي يغادرني فيها الألم، كنت من هول الألم وقوته أضرب الحائط بكفي حتّى أنها تورمت دون أن أنتبه لها، أو أشد الستائر التي بمحاذاتي بشدة ثم أنتبه لما أفعله خوفًا من تمزيقها، وأحيانًا أمسك رأسي وأناجي خالقي أن يعطيني من الصبر والقوة ما يسعني لأحتمل هذا الوجع الرّهيب، كنت أحس أن روحي تفيض إلى خالقها، وكأنّ الموت يمد يده ليمسك بي فتتشبث بي الحياة من الجهة الأخرى، كان صراع بين الموت والحياة، رددت بعض الأدعية ليسهل عليّا خالقي ولادتي.

كانت في كل ساعة تمر تفحصني الطبيبة إلى أن أخبرتني أني دخلت مرحلة المخاض الأخيرة كنت حينها أشعر أن ثواب يدفع بداخلي بقوة يحاول الخروج، أحضَرَت أحد الأجهزة ثبتته على بطني لتسمع دقات قلبه كان صوت دقاته يملأ الغرفة لم أدري حينها هل أستمتع بتلك السمفونية أم أجابِه موجة الآلام التي اجتاحتني! أصعب مرحلة في المخاض هي حين بدأ ثواب بالدفع للخروج كنت أتألم بشدة ولم أستطع كبح ألمي صرخة يا ربي أرحمني خارت قواي تضرعت له ودعيت بشدة واحترت هل لي من القوة ما يكفي لأساعد صغيري على الخروج لهذا العالم؟ كيف له أن يخرج إنه لأمر مرعب؟ كيف لرضيع صغير لا حول له ولا قوة أن يصارع للخروج وأنا الّتي تفوقه قوة قد خارت قواي ولم أعد أملك منها ما يكفي، مسكين هو فما يصارعه ليس بالقليل، طلبت مني الطبيبة التوجه لقاعة الولادة أحضرت معي ما سيرتديه صغيري عند أول زيارة له لهذه الحياة.

جلست فوق الكرسي أتوسل إلى خالقي أن يغمرني بعطفه ويرزقني من الصبر والقوة ما يكفيني، كان ألمًا رهيبًا يعجز اللسان عن وصفه وتموت التعابير والكلمات أمامه، جسمي كله ينتفض يستعد لخروج قطعة منّي، أيّ قوة هذه الّتي أملكها لأعيش هكذا مشهد وأحسه وأنا مستيقظة بل كل حواسي مستيقظة تعي جيدًا ما يجول حولها، الساعة تشير إلى التاسعة وخمس وأربعون دقيقة، كانت هناك طبيبتان يساعدنني على الولادة إحداهما تقف على جانبي الأيمن والأخرى تقابلني، كان وجعًا رهيبًا أحسست من خلاله أني في عالم غير الذي أنا فيه، وكأن روحي صعدت إلى السماء للحظات ثم عادت إلي، بدأ ثواب بالظهور فساعدته الطبيبة التي بجانبي ليخرج بضغطها على بطني فما كان مني إلا أن قرصتها من شدة الألم، تأوهت المسكينة وابتعدت ضاحكة، خرج ثواب وخرجت معه كل آلامي وأوجاعي، وكأنّه كابوس وانقضى فجأة مع خروجه.

لحظة حملي لصغيري نسيت كل ما مررت به حتى أن دمعة هربت منّي فحاولت أن أداريها عمّن حولي، دمعة فرح وسعادة غامرة اجتاحتني حين حملته
 

حملته بين ذراعيها وأخذته بعيدًا عنّي نظفته وألبسته ملابسه، كان قطعة لحم حمراء، كنت أحدث نفسي حينها أهو حلم أم حقيقة؟ أصرت أمًا حقًا! أهذا الصغير قطعة منّي! مشاعر مختلطة انتهت بانكسار حين مرّ صغيري أمام عيناي دون أن اضمه او استنشق ريحه، أخذته بعيدًا عني، ليبدأ كابوس آخر أصعب من وجع المخاض بألف مرة…التقطيب، أن يتم تقطيب جرحك وأنت مفتح العينين تحس بتلك الإبرة وهي تخترق لحمك وتعاود الخروج منه فهذا موت بحد ذاته، كنت أتأوه بشدة في كل مرة تخترق فيها الإبرة جسمي، كنت حينها كمن يصارع الموت في حرب لن تنتهي حتى تسلبني كلّ ما تبقى من قواي.

إعلان

غادرت الطبيبة وتركتني انتفض من شدة البرد إنها الحمى لم أستطع حينها السيطرة على جسمي كان يرتعش بشدة لم أعهدها بقيت بتلك الرعشة ما يقارب الساعة. وبعد هذه الرحلة القاسية اللذيذة والتي لن نتذوق لذتها إلا حين نرى تلك المعجزة تخرج منّا، أدركت لما أوصى نبينا بالأم في حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول اللّٰه ﷺ فقال: يا رسول اللّٰه، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -يعني: صحبتي، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك.

قد يتملك كل امرأة مقبلة على الولادة الخوف بعد قراءتها لهذه التدوينة إلاّ أن مشاعر الأمومة ولهفة اللقاء ستسقيانها من الصبر والقوة الكثير لتتقوت بهما في رحلتها، ولن أنسى ألم القطب بعد الولادة وصعوبة المشي، صدقًا ليس بالأمر الهين، لكن لذته تنسينا كل ما مررنا به، فلحظة حملي لصغيري نسيت كل ما مررت به حتى أن دمعة هربت منّي فحاولت أن أداريها عمّن حولي، دمعة فرح وسعادة غامرة اجتاحتني حين حملته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان