يوم الدين.. كيف رسم خريطة المهمشين في المجتمع المصري؟

بطل لم يعتاد التمثيل، وطفل بملامح نوبية، وحمار يسمى “حربي” هم الأبطال الجدد الذين قدمهم المخرج أبو بكر شوقي في فيلمه “يوم الدين”. الفيلم الذي أثار ضجة في الوسط السينمائي المصري والعربي، بكونه أول فيلم يتحدث عن قضية مرضى الجذام في مصر خاصة والمنطقة العربية عامة.

 

تنبثق قصة الفيلم من حياة رتيبة وعادية أو تبدو كذلك داخل مستعمرة الجذام في صحراء قريبة من القاهرة بمنطقة أبو زعبل، وهي مكان يقع على هامش المدينة وملحق به مستوصف صحي، ويسكنه المصابون بالجذام، يحكي الفيلم قصة حياة رجل في منتصف العمر تقريبا، يسمى “بشاي” ويقوم بدوره راضي جمال وهو مريض متعافي سابقا من مرض الجذام، إلا أن المرض قد ترك تشوهات بارزة وواضحة على وجهه وأطرافه لا يمكن شفائها.

إعلان

  

لكن هذه الحياة الراضية تتبدل فجأة بعد موت زوجة “بشاي” وحضور والدتها للسؤال عنها، حيث نكأ  الموت جرحا عميقا في ذاكرة “بشاي”، فقد أتى به والده من أقصى الصعيد في  جنوب مصر، وتحديدا من محافظة “قنا” منذ كان طفلا، وتركه على باب المصحة، ووعده أنه سيعود ليأخذه بعد أن يتم بشاي الشفاء، لكن بشاي كبر وبلغ الأربعين وشُفي من الجذام ولم يعود والده ليأخذه، ولم يجد بشاي له في إدارة المشفى أي ورقة تذكر اسم أبيه، وكل ما يتذكره أن اسمه بشاي وهو مسيحي الديانة وكان يعيش مع عائلته في قنا في بلدة تسمى “بحور”، وهو ما دفعه إلى أن يذهب إلى قنا ليبحث عن والده وعائلته، كي يجد من يذكره بعد موته.

  

إعلان

وفوق عربته الخشبية “الكارو” التي يجرها حماره “حربي” والتي كان “بشاي” يجمع عليها نفايات تصلح للبيع، يقرر بشاي أن يذهب في رحلة إلى قنا كي يبحث عن أبيه، لكن الطفل “أوباما” الذي يطلق عليه زملائه في مدرسة الأيتام لقب “النوبي” بسبب ملامحه، يصر على اصطحاب “بشاي” في رحلته، وبناء على وصفة وخريطة بدائية من أحد سكان المستعمرة يقطع بشاي الطريق نحو قنا، وتبدأ رحلة الفيلم.

 

يمثل خروج “بشاي” من المستعمرة نحو “قنا” خروج شخص يعيش داخل عالمه الداخلي المحدود الذي يتكون من جيرانه من سكان المستعمرة المحدودين وزوجته المتوفاة ورفيقه الطفل “أوباما” وحماره “حربي” إلى عالم خارجي جديد، وفيما كان “بشاي” يتصور أن العالم الخارجي الذي يمكن أن يضمر له الكره يتمثل في أبيه، وجد “بشاي” عالم جديد يسكنه الظلم والعداء والكراهية، وشعر “بشاي” لأول مرة أنه إنسان غير عادي أو شخص منبوذ ومكروه من الجميع.

  

إعلان

   

جمع المخرج في شخصية “بشاي” كل أشكال النبذ الاجتماعي، فمرضه قد ترك تشوهات على وجهه أصابته بالقبح، بجانب فقره، وزاد على ذلك أنه مسيحي الديانة، أما الطفل “أوباما” فهو طفل يتيم وضعيف وأسمر البشرة، وينتمي لجماعة مهمشة في مصر هي الأخرى وهم أهل “النوبة”. ورغم ما تعرض له “بشاي” ورفيقه “أوباما” في رحلتهما لمصاعب حتى أن الحمار “حربي” مات على الطريق من التعب، وبجانب تعرض بشاي للحبس والسرقة والضرب، حتى انتهى به الأمر أن يتحول لشحاذ في طرقات “سوهاج” إلا أن العالم الخارجي في عين “بشاي” ظل عبارة عن “أبيه” الذي يبحث عنه.

                             

إعلان

وبعد أن وصل “بشاي” لأبيه، من عائلة “سليم” في قنا، سأله “بشاي” سؤال يعبر عن جوهر الفيلم: “أنت بتكرهني؟ أنت نستني؟ ” كان سليم هو العالم الخارجي بالنسبة ل”بشاي” وهذا ما مثل أهمية سؤاله، لكن جواب الأب قد جاء ليحمل وجهة نظر المخرج ورسالة الفيلم واضحة، فقد اخبره الأب أنه لا يكرهه وإنما وضعه في مستعمرة الجذام، كي يعيش حياته الخاصة الطبيعية وسط من يشبهونه، دون أن يتعرض للظلم والنبذ والكراهية من المجتمع المصري، ودون أن يرى حياة الناس المعافين في أبدانهم، فيتمنى حياتهم ولا يستطيع أن يبلغ ما بلغوا من الرفاهية، فيصاب بالحزن والغم ويفقد السعادة والرضا.

 

وعلى ضوء تلك الرؤية يمكن أن نقرأ الفيلم كله من وجهة نظر مختلفة، ننظر للحياة من زاوية المهمشين، لنرى إن رحلة “بشاي” التي مثلت أول رحلة في السينما المصرية خروجا من منطقة القاهرة وضواحيها نحو “الصعيد” والتي تختلف عن رحلة فيلم “خرج ولم يعد” مثلا وتختل فكذلك عن فيلم “الهروب”.  وقد اختار المخرج طريقا لم تطأه السينما من قبل في مصر، طريق من المدينة إلى الجنوب، موطن المهمشين والمظلومين.

إعلان

هي رحلة تضامن خالصة مع كل مهمشين مصر، فكلما ضاقت الحياة في عيني بشاي خلال رحلته الصعبة والشاقة، وجد هؤلاء المهمشين يظهرون ليقدموا له المساعدة. فكما تسكن الكراهية بيوت ذلك العالم، لايزال الخير يختبئ في نفوس هؤلاء الضعفاء المنبوذين تحت الكباري وفي الازقة الضيقة والجحور المظلمة والخرابات المهجورة، مهما بدوا عديمي الرحمة والأخلاق أحيانا.

 

حيث حمل الفيلم تمثيل واضح لأغلب الجماعات المهمشة في مصر،  فعندما تم القبض على “بشاي” ساعده في الهروب شخص من الجماعات الإسلامية، ورغم إنه ابدى اشمئزازا في أول الأمر من “بشاي” إلا أنه بعد الهروب فك قيده وأعطاه “قفطانا” نظيفا،  وعندما وصل “بشاي” و”أوباما” إلى شوارع سوهاج، وكادا أن يموتا جوعا،  حتى أن “بشاي” اضطر للشحاذة،  قدم له أحد الشحاذين المساعدة، حيث أخذهما إلى مسكنه  الذي يضم أشخاص آخرين تعرضوا هم أيضا لحوادث أصابتهم ببعض التشوهات،  فمنهم من فقد ساقيه،  ومن  يركب جبيرة في رقبته،  وكانوا هؤلاء هم من ساعدوه ليصل إلى بلدة أبيه في قنا.

 

“يوم الدين” الذي جاء اسمه من أمل كل هؤلاء المهمشين والمنبوذين من المجتمع، ليوم عدل تُرد فيه المظالم، ويقف الجميع سواسية أمام أله رحيم، قدم رؤية جديدة عن الحياة في مصر، بعيدة كل البعد عن الابتذال الذي تنتهجه السينما المصرية في تصوير حياة الفقراء، وقدم شكل جديد من الجغرافيا السينمائية في عالم أفلام الطريق جغرافيا عالم المنبوذين والمهمشين في مصر،  فلم يكن خروج بشاي من مستعمرة الجذام إلى المدينة أو إلى ريف الدلتا بل كان نحو “قنا” في الصعيد، تلك الرحلة التي تراود حلم كل أبناء الصعيد الذين خرجوا منه نحو القاهرة والاسكندرية وبورسعيد والغردقة وغيرها بحثا عن الرزق. يخبرنا الفيلم أن الحياة داخل خريطة المهمشين تلك تحتوي على كنوز من الرحمة والانسانية والتضامن لكن تخفيها أضواء المدينة المشوهة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان