العَائدُونَ إلى الله

كثيرةٌ في حياتنا هي الغُرُبات، لكلٍّ منها طرائق وسمات، كلُّ من فيها غريبٌ، موجوعٌ، مكلوم، يبحثُ فيها عن نهاية الطريق، عن نورٍ يبصره بين الأزقّة، عنْ مَطْلع شمسٍ مِنْ مَغيب، غربةُ سَفَرٍ، غربةُ أهل، غربةُ دِيَار، غربة الرُّوح عن هواها، ولكنْ لو سألتني عن أقساها، لقلتُ لك: غربةٌ عن الحبيب، وأيُّ حبيب! إنّه الله.

في سنِّ الرابعة عشرة حصل صاحبُنا على كُتيِّب صغير بعنوان "العَائدُونَ إلى الله"، أحضره له والده مع مجموعة من الكتب والمجلدات الدينية، كان حجمه صغيرًا خلافًا لبقيِّة الكتب، ولكنَّ العنوان كان لافتًا جدًّا، فأحبَّ أنْ يبدأ به، علَّه يجِدُ فيه ما يُرَقِّقُ القلب والمشاعر، ويزيدُ من صفاء النفس وخشوع القلب، وعندما فتح أولى صفحاته وجده مبدوءًا: بسم الله الرحمن الرحيم: "وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"، فوجد في هذه الآية راحة وطمأنينة، وارتسمتْ ابتسامةٌ على محيّاه، لجميل الشعور الذي تُضْفيه على النفس، لذلك السلام الذي ابتدأتْ به ليقرَّ في القلوب، لتلك البشرى بالرحمة قبل ذكر الذنب، لذلك العذر الذي رافق فعل السوء-جهالة-، عذوبةٌ تجعلُ العاصي يرغب في رحمة الله، وتجعلُ القلب القاسِيَ ليِّنًا يشَّققُ فيخرجُ منه الماء، وكأنّها تلحُّ عليه أنَّك مهما قسوتَ فإنِّي بك أرحم من أيِّ شيء.

إعلان
اعلم أنَّك ستُعرض على محكمة قاضيها الله وشعارها العدل، وجنودها الزبانية، وساحتها القيامة، وشهودها الجوارح والأعضاء، وحسابها بالخردلة والذرة، وحكمها مشمول بالنفاذ، والمصير فيها إما إلى جنة وإما إلى نار.

راح صاحبُنا يقلِّبُ صفحات الكتاب صفحة صفحة، فوجد فيه سُبُل الخلاص والنجاة من أسوأ أنواع العقوق، عقوق الإنسان لخالقه، قصصٌ وأحاديث للتائبين، فيها أقباس روحانية وعظات تربوية، ومع نهاية كلِّ فصل فيه يزداد شغفه وتَوْقه للذي يليه، حتى وصل النهاية، كان يشعرُ بطاقة إيجابية تملأُ جسده ووجدانه، فقد وجد راحةً كان ينشدها منذ زمن مع هذا الكتاب، فقصص التائبين مما يُلهب الإيمان في القلوب، ويقوي عزائم التقوى، حتى وإن لمْ يكنْ عاصيًا، ذلك الكتاب رغَّبه في وصل الله أكثر.

أيّام وأعوامٌ مرَّتْ، تبدّل فيها كثيرٌ من الأشياء، وكذلك القلوب، وسُمِّيتْ قلوبًا لأنَّها تتقلَّب، ولذا تعوَّد صاحبنا منذ الصغر أن يدعو: اللهمَّ يا مقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلوبنا على دينك، وها هو القلبُ يتقلَّب، وها هو الخشوعُ يهجر النفس، والتقوى تقيمُ فيها على استحياء، ولذُّة الذكرِ لم تعد زاد القلب، وأحاديثُ الهوى وروايات العاشقين أخذت تراود الفتى عن نفسه، لم تعد تغريه النوافل، ولم تعد حبيبة قلبه صلاة الضحى، ولم يعد يطيل سجوده، كان هجرانًا لعهدِ حب وإخلاص كان على نيِّة التأبيد، حتى تقاذفته أمواج مظلمة، ورمته على شاطئ الأمانيِّ الخدَّاعة، شاطئ النعيم الزائف، نعيمٌ ما لبث إلا أن صار سعيرًا، ووهمٌ بالطمأنينة والسعادة تبدد، وعينان تبكيان على سوء المآل، وروحٌ تطرقُ أبواب التوبة، تنشد الرجوع إلى حضن القرآن، تغارُ من أهل الدين والالتزام، بعد أن كانت منهم، أضحتْ غريبةً عنهم، وهنا عادت الذكرى بصاحبنا لذلك الكتيِّب الذي قرأ فيه:

إعلان

اعلم أنَّك ستُعرض على محكمة قاضيها الله وشعارها العدل، وجنودها الزبانية، وساحتها القيامة، وشهودها الجوارح والأعضاء، وحسابها بالخردلة والذرة، وحكمها مشمول بالنفاذ، والمصير فيها إما إلى جنة وإما إلى نار، ليس فيها لا ضمانة ولا كفالة ولا تأجيل ولا تبديل ولا تغيير ولا رشوة ولا تزوير، ولا إحالة ولا استئناف.

وقد برز الحق لخلقه وتجلى لعباده وتحدى الخصوم والأعداء قائلا لهم:
"لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ " فلا يجيبه أحد،
فيقول تعالى: "لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ".

ثمَّ تذكّر قول شيخه له يومًا: والله إنِّي لأستحي من الله أنْ أكونَ مُقبلًا على عصيانه وهو مُقبلٌ عليَّ بنِعَمه، مُسبلًا عليَّ سِترَه، فكيف لا أكون من التائبين وهو الغفور الرحيم. ثمَّ تذكّر قول أبيه: يا بُنيّ! أُعيذُك بالله أن يكون متنفس أحزانك جدار "الفيس" وآذان الضعفاء وثرثرة المحادثات! بوابة النور سجدةٌ في خلوة، وضراعة في خُفْية بين يدي الرحيم الودود، الذي يحب العفو والجود.

فبكى صاحبنا بكاء شديدًا، قرَّر أن يختلي بنفسه، أسبغ وضوءه، واستخرج سجادة صلاة وصَّته بها أمه قبل سفره، ومصحف جيبٍ أعطته إياه أخته، وجلس يدعو ويناجي واستغرق في جلوسه طويلًا يبكي ويذرف العبرات علَّها تغسل ذنوبه وتشفع له عند الله ليغفر آثامه، وفي خضمِّ سجوده أبصر صاحبنا طريقًا يبدو عليها البعد وطول المسافة، فأخذ يقترب حتى رأى لافتةً مكتوبًا عليها: "العَائدُونَ إلى الله"، فقرر متابعة السر ليجد لافتةً أخرى كُتب فيها: حُفَّتْ الجنَّةُ بالمكاره وأنتَ تكرهها.. وحُفَّت النارُ بالشهوات وأنتَ تطلبها.. فما أنتَ إلّا كالمريض الشديد الداء.. إنْ صَبَّر نفسَه على مضض الدواء اكتسب بالصبر عافية.. وإنْ جَزِعت نفسُه ممّا يلقى طالتْ به علة الضنا.

حقيقة الإيمان تتجلى عند اليقين بميزان العدل الإلهي لا البشري، فينعكس ذلك على أقوالك وأفعالك، فيعظم في نفسك ما شقَّ على الناس، ويصغُر فيها ما هم سائرون إليه يلهثون.

وهنا تذكَّر صاحبنا أنَّه أصبح سمَّاعًا للأغاني الأجنبية مُولعًا بها، فتارة "الراب" وتارة "الروك"، كان يظنُّ أنّها مصدرٌ للقوة، ولكن كانتْ قوة شيطانية، كان جسده يرتعش ويهتزُّ مع تلك الموسيقى الصاخبة، وكأنه باع روحه للشيطان، لم يكن يشعر بالخشوع في صلاته، كان يشعرُ بصداعٍ مع كل آية قرآن يتلوها، لم يعد يستيقظ لصلاة الفجر.. توضأ وصلّى ركعتين، وتوجّه لهاتفه وقام بحذف الأغنيات، لم يُبق على واحدة منها، أحسَّ باختلاف عظيم ومريح، وكأنَّه شخص آخر، لم يشعر بأي حنين إليها، فقد أيقن أنَّ إدمان الموسيقى والأغاني ليس إلا خواءً روحيًا إن ملأته بذكر الله والقرآن وما ينفع، تحررت نفسه من ذلك الظلام الدامس، وأبصرت عيناه نور الهداية، وأي نور هو! هو نور على نور.

إعلان

ثمَّ تابع طريقه ليجد لافتةً أخرى مكتوبٌ فيها: أقم ميزان المفاضلة في حياتك، ثمَّ اختر الكفَّة الراجحة عند الله، حتى لو هانت في ميزان البشر، واستمسك بالعروة الوثقى.. "قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ ". فحقيقة الإيمان تتجلى عند اليقين بميزان العدل الإلهي لا البشري، فينعكس ذلك على أقوالك وأفعالك، فيعظم في نفسك ما شقَّ على الناس، ويصغُر فيها ما هم سائرون إليه يلهثون.. "فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا"، هم تعلقوا بدنياهم، فأضاعوا اليقين وتملّكهم الخوف من الطواغيت، وأنت تركت دنياك خلفك، قاصدًا وجه الله، طالبًا قربه.. "وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" فيا سَعْد من باع نفسه لله ليشتري بها الجنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان