الهَوسُ بنهايةِ العَالم

الهَوسُ بنهايةِ العَالم:
السينمَا تُحاكي القلقَ، "ثم إن الدنيا كلها ليست سوى فصل واحد من رواية سوف تتعدد فصولها.. فالموت ليس نهاية القصة ولكن بدايتها" 
مصطفى محمود.
إعلان
إن المتأمل في ماهية الطبيعة البشرية يدرك أنها أكثر تعقيدا مما تبدو عليه، فالإنسان قد يميل للسوداوية أحيانا ويطغى على عقله هاجس التفكير في الموت. لا من منطلق حيرة وجودية تعتري كيانه كالتساؤل عن حقيقة وجود حياة بعد الموت، بل لأنه كائن مفكر يميل بطبعه إلى البحث عن الأمور الغامضة، وهل يوجد شيء أكثر غموضا من فكرة النهاية؟

هوس طبيعي قد يصيب الذات المفكرة، فأنت تعلم ما حدث قبل هذه اللحظة وتعلم ما يحدث الآن، ولكن لا يمكنك وبأي طريقة أن تعلم -بشكل يقيني- ماذا سيحدث بعد هذه اللحظة؛ لكن الإنسان يأبى أن يظل عاجزا يكبله سؤال، فكل المعارف والعلوم انبثقت من البحث عن الحقيقة.

العلم والأدب وجهان لعملة واحدة:
من جهة، وصلت البشرية مرحلة من العبقرية العلمية تسمح بتحديد الاخطار الكونية التي قد تتسبب في إبادة الجنس البشري، فتكهنوا بالمستقبل عبر تحاليل و تجارب علمية كانت نتاجا لقرون من البحوث المتواصلة و التطور العلمي. إنه الجانب العملي من الطبيعة البشرية، الجانب الذي يضع حلولا أو فرضيات موضوعية لكل عجز يجابه الإنسان.

الإنسان يجد لذة في تخيل نهاية الوجود، ولذة أكبر في مشاهدة ذلك. الخوف من نهاية العالم هي فكرة أزلية وامتداد للوعي الإنساني.. عند الخوف عموما، يجبر الإنسان نفسه على عدم التفكير في الأمر.
إعلان

ومن جهة أخرى، فإن تطور الوعي البشري جعل الإنسان يرفض أن يكبله الواقع، فأطلق العنان لمخيلته وكتب تصورات أخرى لفكرتي المستقبل والنهاية، تصورات لا ترتبط بمنطق معين. لكن القول بأن العالم أسير المنطق أمر مبالغ فيه، فإن العلم لا يصمد دون مخيلة، والأدب إن اجتمع بالعلم أنتجا إبداعا ملحميا: أفلام الخيال العلمي على سبيل الذكر لا الحصر، فإن أعظم الإنتاجات السينمائية هي ثمرة امتزاج التعقل والجنون. العلم والأدب، يعالجان القلق الإنساني.

الأفكار العظيمة تصنع أفلاما عظيمة:
منذ بدايتها تأثرت سينما الخيال العلمي بالأدب، فإن روائع الأعمال السينمائية ترجع أصولها إلى كتب الخيال العلمي. تتزامن بدايات تاريخ سينما الخيال العلمي مع بدايات الأدب المعاصر. في الواقع تطور الخيال العلمي وازدهر في القرن 20، حيث إن التكامل العميق بين الاختراعات العلمية والمخيال الأدبي فتح الأبواب لصناعة أفلام الخيال العلمي لتصبح بذلك ظاهرة شعبية لها تأثير كبير على الثقافة والفكر العالمي، ممهدة الطريق لتساؤلات فلسفية عميقة عن إمكانية نهاية العالم جراء التطور العلمي الذي من المحتمل أن يصل ذروته عبر تطوير الذكاء الصناعي الذي يمكن أن يتغلب على الذكاء البشري، وعبر غزو الفضاء وغيرها من النظريات المذهلة.

منذ أن قام المخرج جورج ميليس بصناعة فيلم الخيال العلمي القصير رحلة إلى القمر A Trip to the Moon عام 1902، بدأت رحلة هذه الأفلام في درب السينما العالمية لتصبح تصنيفا قائما بذاته، وسرعان ما أصحبت الأفلام والروايات كيانين مستقلين.

يترجم الإنسان قلقه الحضاري في عدة أشكال أهمها الفن. فماذا لو كان تصور نهاية للعالم، ترجمانا للرغبة في البدء من جديد؟

هاجس النهاية:
الآن وقد علمنا ما الذي قد يدفع كاتبا أو مخرجا لطرح مسألة نهاية العالم، لنا أن نتساءل، ما المغري في مشاهدة العالم يتداعى وينتهي بعشرات الطرق المختلفة؟ أظن أن أرسطو بإمكانه أن يجيبنا عن ذلك التطهير، تصور أرسطي يعني الانفعال الذي يحرّر الإنسان من مخاوفه. وفي سياق معاصر، إنه الغرض من الأعمال التراجيدية التي تقوم بتطهير المشاهد من المشاعر السلبية والعنف والخوف برؤية نفس الشيء يحدث لبطل العمل. إن هذا الهوس، يترجم الرغبة في الاطلاع على ما يمكن أن يحدث يوما ما، من الأساطير القديمة والتصورات اللاهوتية لنهاية العالم وصولا للأدب الحديث والسينما.

إن الإنسان يجد لذة في تخيل نهاية الوجود، ولذة أكبر في مشاهدة ذلك. الخوف من نهاية العالم هي فكرة أزلية وامتداد للوعي الإنساني.. عند الخوف عموما، يجبر الإنسان نفسه على عدم التفكير في الأمر ليتمكن من المواصلة ويعمل على تجاهل الأمر الذي يخيفه ظنا منه أنه سيخرجه بذلك من ذهنه، ونظرية التطهير تقوم على عكس ذلك، فبمشاهدة أفلام نهاية العالم يتوحد مع البطل في صراعه مع البقاء، تلك الغريزة التي نشترك فيها جميعا. فيحس أنها ليست معركته وحده، وأنه ليس خوفه وحده وبذلك يتقلص الخوف عبر فرضية المصير المشترك.

إعلان

يترجم الإنسان قلقه الحضاري في عدة أشكال أهمها الفن. فماذا لو كان تصور نهاية للعالم، ترجمانا للرغبة في البدء من جديد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان