أتحدث عن الأوتوبيس (بؤس المثقف العربي)

في مقطع مرئي شهير منشور في عدد من المواقع الإلكترونية تسأل المذيعة ضيفا عجوزا في الشارع عن رأيه في مسألة ترشح المرأة لعضوية البرلمان فيفاجئها بقوله: "بلا مرأة بلا…، أنا عاوز أتكلم عن الأوتوبيس أهم"!

 هذا المشهد على وجازته وطرافته نستطيع أن نعده نموذجا معبرا عما يمكننا تسميته ببؤس المثقف العربي الذي يطرح على الناس العديد من القضايا المهمة التي لا يشاركونه الرأي في أنها كذلك بسبب واقع اجتماعي أو اقتصادي ضاغط عليهم يمنعهم من التطلع بالفكر إلى آفاق أرحب، حتى أصبحت كلمة ثقافة ومثقفين من الكلمات سيئة السمعة في بعض الأوساط المجتمعية في العالم العربي، ووصل الابتذال ببعض الشباب إلى حد تسمية الفيلم الإباحي باسم "فيلم ثقافي" وهنا يجب التوقف وطرح العديد من الأسئلة المهمة بشأن الثقافة وأهلها، فما هي الثقافة العربية؟ ومن هم المثقفون العرب؟ وما معنى كلمة نخبة؟ وماذا يريد المجتمع من النخبة المثقفة؟ وماذا تريد هي منه؟ وما مقدار التوافق في الشعور والفكر والانتماء والهوية بين نخبة المثقفين من جانب وعموم الناس في بلادنا من جانب آخر؟

أولا: ما هي الثقافة العربية؟
جاء في معجم لسان العرب مادة (ثقف): ثقف الشيء ثقفا وثقافا وثقوفة: حذقه. ورجل ثقف وثقف وثقف: حاذق فهم، وأتبعوه فقالوا: ثقف لقف. وقال أبو زياد: رجل ثقف لقف رام راو. وقال اللحياني: رجل ثقف لقف، وثقف لقف، وثقيف لقيف، بين الثقافة واللقافة. وقال ابن السكيت: رجل ثقف لقف إذا كان ضابطا لما يحويه قائما به. ويقال: ثقف الشيء وهو سرعة التعلم. وقال ابن دريد: ثقفت الشيء حذقته وثقفته إذا ظفرت به. قال الله تعالى: "فَإِمَّا تَثْقَفَنهُمْ فِي الْحَرْب" أ-هــ

إعلان
إذا كنا نتحدث عن المثقف العربي فإن مقتضى كونه مثقفا أن يكون حاملا للعلم والفكر والمعرفة، ومقتضى كونه عربيا أن تكون هذه العلوم والأفكار والمعارف عربية أو الجزء الأكبر منها على الأقل عربيا.

فالثقافة في أصل اللغة اللغة معناها الإتقان والحذق والمهارة، وبمراجعة معاجم اللغة الحديثة نجد أن الثقافة تعني: مجموعة من القيم المشتركة بين مجموعة من الناس، بما في ذلك السلوك المتوقع و المقبول من الناس، والأفكار، والمعتقدات، والممارسات الشائعة بينهم. وهناك فرق بين مجموعة من الكلمات المتقاربة في معناها مثل (الثقافة العامة، والثقافة الشعبية، والثقافة الوطنية، والثقافة المهنية، والثقافة الأخلاقية، والثقافة المضادة والعولمة الثقافية وغير ذلك) كما تجدر الإشارة إلى مصطلح الثقافتين وهو مصطلح حديث يعني الثقافة العلمية والثقافة الأدبية.

وبعد فيمكننا القول: إن الثقافة هي مجموعة العلوم والمعارف المؤثرة في السلوك الإنساني المنقولة بواسطة اللغة أو غيرها. وإذا كنا تحدث عن الثقافة العربية فنحن نعني العلوم والفنون والمعارف العربية والعلماء العرب عبر التاريخ ومقدار إسهامهم في العلوم والمعارف مشكلين بذلك ما يسمى بالثقافة العربية.

إعلان

إذا كانت هذه هي الثقافة فمن هم المثقفون العرب؟
وفق التعريف السابق ذكره للثقافة فإن المثقف هو من يحمل قدرا ما من العلوم والمعارف المهمة في المجتمع ذات التأثير في السلوك الإنساني، وعليه فكل من يحمل فكرة أو معلومة يسمى مثقفا، وقد تكون ثقافته واسعة أو محدودة، مؤثرة أو غير مؤثرة، وكلما زادت معلومات الإنسان وأفكاره ومعارفه ازداد ثقافة، وكلما قلت أفكاره ومعارفه قلت ثقافته.

وإذا كنا نتحدث عن المثقف العربي فإن مقتضى كونه مثقفا أن يكون حاملا للعلم والفكر والمعرفة، ومقتضى كونه عربيا أن تكون هذه العلوم والأفكار والمعارف عربية أو الجزء الأكبر منها على الأقل عربيا، فعندما نجد المثقف الذي يدعي أنه عربي قد قرأ عن أو لـتوما الإكويني وديكارت وفرنسيس بيكون وكانط وهيجل وشوبنهاور وجون ديوي وآدم اسميث وإيميل سيوران وبرتراند راسل وجون ستيوارت ميل ونيتشه ومونتيسكيو وويل ديورانت وجان جاك روسو وجورج برنارد شو وليو تولستوي وماركيز وفيكتور هوجو وغيرهم وغيرهم الكثير.

النخبة في أي مجتمع هم قادة الرأي والفكر والعلم والثقافة في هذا المجتمع، وهم الممثلون الطبيعيون عن المجتمع وآلامه وآماله وتحدياته وطموحاته.
ثم إذا تحدثت معه عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن سيرين والحسن البصري وأبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الماتريدي وابن الأزرق وابن خلدون والجويني والغزالي وابن الجوزي وابن تيمية واين القيم والذهبي والنووي والرافعي وابن حزم والسبكي والسيوطي وغيرهم من علماء المسلمين العرب عبر تاريخ هذه الأمة الطويل لا تكاد تجده قرأ شيئا من كتبهم بل ربما لم يسمع باسم أكثرهم إلا كما يسمع رجل الشارع عن المشهورين منهم أو ربما قرأ عن بعضهم في كتابات بعض المستشرقين، ثم إذ بهذا المثقف البائس يشكو انفصال الناس عنه وعدم استجابتهم لدعوته وعدم اتصالهم به أو سيرهم على منهجه أو نسجهم على منواله!

وهنا يحق لنا أن نتساءل: من هم النخبة؟
إن النخبة في أي مجتمع هم قادة الرأي والفكر والعلم والثقافة في هذا المجتمع، وهم الممثلون الطبيعيون عن المجتمع وآلامه وآماله وتحدياته وطموحاته، وكثير من المتسمين باسم النخبة في المجتمعات العربية لم ينتخبهم المجتمع ولا يمثلون السواد الأعظم منه، بل ربما انتخبتهم وزارات الثقافة وأنظمة الحكم أو سلطات رأس المال وأصحاب القنوات والإذاعات، أما الناس فلا يكادون يعرفون أحدا من هؤلاء النخبة التي تتحدث باسمهم وتحدد الطريق الذي ينبغي عليهم سلوكه في إدارة شؤونهم.

إعلان

هذا تعريفنا للثقافة والمثقفين والنخبة العربية كما نرى واقعها، أما مستقبلها والمأمول منها والمرجو لها وكيف يمكن صناعتها ونشرها وتعميقها في نفوس وعقول أبناء الأمة فلعل لهذا مقام آخر إن شاء الله تعالى، وللحديث بقية.

إعلان
___________________
هامش:
إعلان
1- الأنفال 57 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان