قراءة في أحداث الواحات ودلالاتها

إعلان
إعلان

مثلت أحداث الواحات مفاجئة صادمة لكل الأطراف، بدءا من نظام السيسي وصولا إلى مناهضي الانقلاب مرورا بالخبراء والمتابعين. ففي مساء الجمعة 20 أكتوبر تناقلت وسائل الإعلام تصريحات لمصادر أمنية عن وقوع مجزرة في صفوف قوات الشرطة بالصحراء الغربية وصل ضحاياها إلى 55 قتيلا بينهم 23 ضابطا.

 

إعلان

ونشرت  المواقع الإخبارية  مثل مصراوي والوطن أسماء القتلى، ولكن تبين من خلال مراجعة الأسماء المنشورة أن العديد منها تعود لضباط  جيش سبق أن سقطوا في سيناء خلال الأعوام الماضية مثل (سيد فوزي، وأحمد عبدالنبي، محمد هارون، شريف عمر) مما ألقى بظلال من الشك حول صحة تلك الأرقام.

 

وفي اليوم التالي للأحداث أصدرت وزارة الداخلية بيانا أعلنت فيه مقتل 16 شرطيا بينهم 11 ضابطا، وذكرت أسمائهم الرباعية مما رجح صحة تلك الأرقام، إذ لو أرادت الوزارة التكتم على عدد ضحاياها لما ذكرت أسمائهم.  وفي ذات البيان زعمت الوزارة مقتل وإصابة 15 من المهاجمين وأكدت اختطاف أحد الضباط. تلقى المتابعون بيان الداخلية بالاستنكار، فكيف سقط عدد من الضباط أكبر من عدد العساكر؟  فهذا خلاف المعتاد في تلك النوعية من الحوادث!

إعلان
 
 أقال السيسي بعد أسبوع من الحادث رئيس أركان الجيش، ورئيس قطاع الأمن الوطني ورئيس العمليات الخاصة بالأمن المركزي، وكلا من مدير أمن ومفتش قطاع الأمن الوطني بمحافظة الجيزة
 

فسر البعض ذلك بأن أغلب عناصر العمليات الخاصة بالأمن المركزي من الضباط وأفراد الشرطة لا من المجندين، ولكن سرعان ما آتت الإجابة الأوضح في شهادة طبيب بمستشفى الشرطة ذكر أن المهاجمين أسروا معظم عناصر الحملة الأمنية، وقتلوا الضباط فقط وتركوا الجنود.

إعلان

 

وعقب إذاعة تلك الشهادة تعرض المذيع الانقلابي أحمد موسى لحملة هجوم شعواء من رفاقه، كما أصدرت وزارة الداخلية بيانا رسميا على غير عادتها نفت فيه صحة التسجيل، بينما نشرت بعض الصحف أخبارا عن توقيف جهاز الأمن الوطني للطبيب الشاهد، واتهامه بإفشاء أسرار عمله، وهو ما يشير إلى صحة التسجيل، وأن أحمد موسى أذاعه دون أن يقيم جيدا تداعيات نشره. آنذاك تساءل البعض: لماذا لم تبادر وزارة الداخلية إلى إرسال قوات مؤازرة لعناصرها، ولماذا لم يسارع الجيش إلى تقديم دعم جوي؟

 

إعلان

هذا السؤال تغيب عن أصحابه طبيعة الإجراءات التي تصاحب التحركات الأمنية والعسكرية، فعندما تتعرض القوات لهجوم تباد خلاله نخبة من ضباط الأمن الوطني والعمليات الخاصة، فعندئذ لن ترسل الوزارة في ظلام الليل بالصحراء دعما ضد خصم يتسم بمستوى قتالي محترف وتجهل حجم أعداده ونوعية تسليحه، لذا لم تتحرك قوات الدعم سوى مع مطلع نهار اليوم التالي للهجوم. أما سلاح الطيران المصري فلا يخرج في طلعات جوية سوى بعد نيل تصديق كتابي من رئيس الأركان، ويستثنى من ذلك منطقة شرق القناة التي تشرف على العمليات بسيناء، إذ يحق لقائدها طلب الدعم الجوي دون الرجوع لرئاسة الأركان، كما أن سلاح الطيران يحتاج لمعلومات محددة عن طبيعة الهدف وإحداثياته كي يجهز الطائرات المناسبة للتعامل معه.

 

ويظهر أن الارتباك كان سيد الموقف آنذاك، وهو ما تجلى واضحا في عملية الإنقاذ إذ خشى طيار هليكوبتر الإنقاذ من الهبوط فورا في مكان الحادث خوفا من تعرضه للاستهداف، وبالأخص مع سابقة إسقاط طائرتي هليكوبتر في الصحراء الغربية خلال مطاردات في العامين الماضيين.

إعلان

 

أعلن الجيش في 31 أكتوبر قصفه للمجموعة التي نفذت هجوم الواحات، وتلقى المتابعون الخبر باستخفاف نظرا لانعدام مصداقية بيانات المتحدث العسكري عن العملية

إثر الحادث لم يسارع السيسي للإدلاء بأي تصريحات، ولكنه أقال بعد أسبوع رئيس أركان الجيش، ورئيس قطاع الأمن الوطني ورئيس العمليات الخاصة بالأمن المركزي، وكلا من مدير أمن ومفتش قطاع الأمن الوطني بمحافظة الجيزة، وهم المسؤولون عن الإشراف على العملية الأخيرة، مع الإقرار بوجود علامات استفهام حول إقالة رئيس الأركان تحديدا، هل لتقصيره في نجدة قوات الشرطة أم لأسباب أخرى غير معلنة، وإن كان تزامن الإقالات يؤشر لارتباط إقالته بحادث الواحات.

إعلان

 

ثم فجأة عقب 11 يوما من الحادث، أعلن الجيش في 31 أكتوبر قصفه للمجموعة التي نفذت الهجوم، وتلقى المتابعون الخبر باستخفاف نظرا لانعدام مصداقية بيانات المتحدث العسكري، ولسابقة قصف الطيران لمجموعة من السياح المكسيكيين في الصحراء الغربية عام 2015 أثناء مطاردة عناصر جهادية.

 

إعلان

ولكن الفيديو الذي نشره المتحدث العسكري كانت له دلالات مختلفة هذه المرة، فالعناصر المقصوفة سارعت للركض بعيدا عن السيارات إثر إدراكهم اقتراب طائرة منهم، وهو ما لن يفعله المدنيون فضلا عن المهربين، فهناك أعراف تحكم العلاقة بين المهربين والجيش في الصحراء الغربية، تقضي بأنه إذا تم رصدهم من الجو ترسل لهم الطائرات إشارات تحذيرية، فيأخذون طعامهم وشرابهم ويبتعدون عن سياراتهم التي تتعرض للقصف فارغة، تجنبا لدخول الجيش في نزاعات مع قبائل المنطقة التي يعمل الكثير من أبنائها في حرفة التهريب عبر الحدود. ورغم إذاعة الفيديو بقي سؤال جوهري: ما الدليل على أن المجموعة المقصوفة هي التي نفذت الحادث؟!

 

جاءت الإجابة في اليوم التالي عندما نشرت الصحف صور جثامين العناصر المستهدفة، وظهر فيها بجلاء نقيب الصاعقة السابق "عماد الدين عبد الحميد" وهو أحد المشاركين في محاولة اغتيال وزير الداخلية اللواء "محمد إبراهيم" عام 2013، كما شارك في هجوم (الفرافرة 2) الذي أسفر عن مقتل 22 ضابطا وجنديا بالصحراء الغربية عام 2014. وتأكد الأمر أكثر في اليوم التالي بإصدار جماعة "أنصار الإسلام" في 3 نوفمبر بيانا تبنت فيه الحادث وكشفت عن ملابساته، وأكدت سقوط فرد واحد فقط من عناصرها في حادث 20 أكتوبر لا 15 عنصرا مثلما زعم بيان وزارة الداخلية، كما اعترفت الجماعة بمقتل عماد ومجموعة من رفاقه في القصف الذي استهدفهم لاحقا، وأشارت إلى اختطاف ضابط شرطة دون أن تكشف ملابسات هروبه من مختطفيه.

إعلان

جنازة أحد الضباط الذين قضوا في عملية الواحات (رويترز)

بالتوازي مع ذلك احتفى حساب القيادة المركزية الوسطى الأميركية على تويتر بعملية القصف، كما نقلت صحيفة الأهرام وموقع روسيا اليوم عن خبير عسكري استعانة الجيش المصري بأقمار صناعية  فرنسية وروسية لتعقب المجموعة، وذكر موقع مدى مصر عن مصدر أمني أنه تم التوصل للمجموعةة من خلال رصد اتصالات عناصرها بآخرين في ليبيا، وهو ما قد يفسر الغارة المجهولة التي يتهمم الطيران المصري بشنها على مدينة درنة عقب الحادث.

إعلان

وهنا يبقى السؤال الأهم: ما الذي كانت تفعله تلك المجموعة في صحراء محافظة الجيزة؟ قياسا على التجارب الجهادية السابقة في العراق وسوريا، فالجماعات التي لها ارتباطات بالقاعدة بدأت التواجد هناك بعدد محدود جدا من الكوادر لا يتجاوز ١٠ عناصر، مثلوا نواة للعمل التنظيمي، فشنوا هجماتهم وتوسعوا عدديا ثم أعلنوا لاحقا عن أنفسهم بعد تواجدهم الفعلي بعدة شهور، هذا السيناريو يصلح لتفسير ما حدث بالواحات، فمجموعة لا تتجاوز ١٢ فردا بقيادة ضابط سابق مخضرم، تمركزت في الصحراء بعيدا عن أعين النظام، ولكنها تعرضت لضربة استراتيجية بانكشافها للأمن، الذي لم يكن يدري حقيقة مستوى عناصرها، فتحرك للقبض عليهم بحملة أمنية تعرضت للإبادة، ومن ثم أدرك النظام خطورة المجموعة، فأعد لها ما يناسبها وقضى عليها بشكل شبه كامل، ثم عقب نشر صور جثامين منفذي الهجوم، أصبح إخفاء الجماعة لهوية عناصرها غير ذي قيمة، فنشرت بيان تبنيها للأحداث.

 

دلالات الأحداث

إعلان
تأزم الأوضاع السياسية في مصر، وانسداد منافذ التغيير، وقمع النظام لمعارضيه، يجعل تكرار هذه الأحداث أمرا متوقعا، فمظاهر معارضة الانقلاب السلمية تلاشت بمرور الوقت

يعد هجوم 20 أكتوبر أكبر حادث من نوعه منذ اغتيال السادات، إذ سقط فيه 6 ضباط أمن وطني، وهو أكبر عدد يسقط من ضباط جهاز الأمن السياسي في مصر في عملية واحدة منذ تأسيس الجهاز عام 1910.

 

إعلان

كشف الحادث عن ضعف المستوى القتالي لجهاز الشرطة، وإدارته لعملياته بنمط غير احترافي، فافتقدت الحملة الأمنية للدعم الجوي أو فرق الدعم والإسناد السريعة، فضلا عن ضعف الاستطلاع لمكان المداهمة.

 

إعلان

مرونة النظام المصري، إذ امتص سريعا الضربة القوية والمفاجئة الموجهة له، وتمكن بالاعتماد على الجيش من تعقب المجموعة المنفذة واستهدافها.

 

إعلان

دخول الجماعات المقربة من تنظيم القاعدة على خط الأحداث في مصر، وهي جماعات تجمع بين الاحتراف العسكري والحرص على توجيه رسائل إنسانية في طيات عملياتها القوية مثلما يتجلى في عدم قتلها للجنود الأسرى وإطلاق سراحهم. وهو نمط مختلف عن تنظيم الدولة الذي يحرص على قتل الجنود الذين يسقطون في قبضته.

 

مصداقية فرع تنظيم الدولة بمصر في تبنيه للعمليات التي يقوم بها، فبينما يتهمه البعض بالمسارعة لتبني أي حادث يقع ضد النظام، نجده لم يصدر أي بيان يتبنى فيه أحداث الواحات. بل وأشادت صحيفة التنظيم الأم الأسبوعية (النبأ) بالحادث دون أن تنسبه للتنظيم.

 

تأزم الأوضاع السياسية في مصر، وانسداد منافذ التغيير، وقمع النظام لمعارضيه، يجعل تكرار هذه الأحداث أمرا متوقعا، فمظاهر معارضة الانقلاب السلمية تلاشت بمرور الوقت، وظهرت بدلا منها أشكال أخرى أكثر عنفا واحترافا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان