عندما رحل أبي مرتين

إعلان

كنت في غرفتي أتصفح كتاب الفيزياء علّني أستطيع إيجاد منطق واحدٍ لتلك القوانين التي أرهقت فتاة الصف العاشر، لم أجد يوماً أي ضرورة لتلك المادة أو حتى فرضها على طلابٍ تستهويهم نصوص الأدب وتحليلاتها أكثر من المسائل العلمية، كيف كان لوالدي أن يستلذ بتحليل تلك المسائل وفكفكة ألغازها؟
 

يطرق باب الغرفة، يقطع معه حبل الأفكار المشدود تارة نحو امتحان الغد وتارةً أخرى استفسارٌ جديد عن والدي الذي لم يسعفنِ ذلك المرض أن أجد جوابه أمامي، صوت أمي "تعالي إلى غرفة أخيك حرارته مرتفعة، وأشعر أنه ليس على ما يرام، هناك شيء يجول في خاطره فلنخفف عنه قليلا".
 

إعلان
إلى أي حدٍ يمكن للقدر أن يلهمنا الكلمات فنبوح بها شوقاً، نبوح بها ألماً، أخي فاض اشتياقه في تلك الليلة، ليعلن القدر عن لوعة أخرى وشوق جديد.

كان أخي يعاني من إنفلونزا حادة ألزمته الفراش لعدة أيام والتغيب عن المدرسة، حيث كان وقتها في الصف السادس الابتدائي، ولا أدري أي تكتيكاتٍ للقدر تلك حتى تغزو الإنفلونزا جسده في هذه الأيام بالذات.
 

ذهبت إليه، جلسنا نتحدث، كنت أحاول أن أضفي جواً من المرح نوعاً ما علّه يبتسم، في وسط الحديث تنهمر دموعه فجأة صعقت كيف؟! ما الذي يؤلمه إلى هذا الحد؟ إنها مجرد إنفلونزا يا الله! نظرت إلى أمي خشيتُ من وقع رؤيتها لأخي وهو يبكي، أحضرت منديلاً مسحت دموعه، نظر إليها، تسربت تلك الكلمات من صميم حزنه "اشتقت لـ بابا.. اشتقت لـ سيدو".
 

اخترقت كلماته مسامعي كبركان، كإعصارٍ حلّ بمدينة فدمر كل معالم الجمال والتاريخ فيها، أنا أعرف أخي جيداً هو كتوم، كتومٌ إلى أبعد حد، يفضحه شلال الدم النازف من أنفه كلما كتم شيئاً أكبر منه أو فاق احتماله، فوالله إن حجم الألم الذي أخرج الكلمات من رحم حزنه هو أكبر من أن يُفهم أو يُحل، وهل لمصيبة الفقد قوانين ومسائل فيزيائية نستطيع بها استعادة من أفجعنا القدر برحيلهم؟ نحاول عابثين أن نبتسم، ومع كل جرعة حزن أو لحظة فرحٍ مسروقٍ هم أول الحاضرين يخترقون كل الأبواب المؤصدة، يتربعون على عرش اللحظات قهراً وألماً وحسرة.
 

إلى أي حدٍ يمكن للقدر أن يلهمنا الكلمات فنبوح بها شوقاً، نبوح بها ألماً، أخي فاض اشتياقه في تلك الليلة، ليعلن القدر عن لوعة أخرى وشوق جديد، يرن جرس الهاتف صباحاً يخبر أمي أن جدتي قد ساءت حالتها فجأة، وأن طبيبها المختص قد أبلغته جميع شهاداته أن على أحبائها المجيء لرؤيتها فلا نعلم متى ينفذ أمر الله.
 

جدّتي.. حبيبتي يا عطر أنفاسي.. ويا شوقاً آلمني.. يا طفولةً نمت بين ذراعيكِ.. بين أحضانك.. كنت أرى أبي بيننا.. معنا.. كانت تكفيني أنفاسك يا زهرا حمل لي رائحة والدي بعد موته.. اليوم ترحلين إليه.. اليوم أودع أبي مرةً أخرى.. ترتدين الأبيض فولدكِ بانتظارك حبيب روحك، ثلاث سنواتٍ يا جدتي وأنت مثال كل أم ثكلى، كل الأمهات الثكالى هم جدتي، بصراخها.. بوداعها لأغلى أبنائها في كفنه.. بأنينها ليلاً شوقاً إليه.. بتخيلاتها أنه جاء لزيارتها.. كفكف دمعها.. اطمأن عليها.. أمسك يدها قبّلها.. وبان وجهه كان عندما جاءها كالقمر.. هنا ترحل طفولتي وترحل كل الزغاريد.. رحلت جدتي..
 

إعلان

أعود من مدرستي بعد امتحان الفيزياء المرهق ذاك، بعد رفضي التغيب حتى أودع جدتي الوداع الأخير، فلا زالت ذاكرتي تختزن لحظات وداع والدي من ثلاجة الموتى إلى النظرة الأخيرة، لا زلت أحاول أن أشفى من تلك الحادثة.
 

أعود وقد انتهى كل شيء، يفتح باب مجلس الضيوف على مصراعيه يمتلئ البيت بالمعزين، جميعهم هنا إلا جدتي هي المرة الأولى التي أدخل البيت دونها، أشتاقها من الآن! كيف لنا أن نعيش عمرا دونها؟! كيف!؟
 

أجلس بعد انتهائي من ذلك السلام الجاف على المعزين، أرى صورتهم أمامي أبي، جدي، جدتي، جميعهم رحلوا، وبرحيلهم يغلق القدر ذاك الفصل من حياة عائلتنا الصغيرة ـ أنا وأمي وأخي وأختي ـ لا زالت جدران هذا البيت تحتفظ بكل ذكرياتنا الجميلة تلك، بالرغم من كل ما فرضه القدر عليها من أحزان فهنا كان عزاء جدي قبل ست سنوات تبعه عزاء والدي ب ثلاث سنوات واليوم بعد ثلاثٍ أخرى عزاء جدتي.
 

إعلان
جدي يا مهجتي أنت، لا زلت تزرع في سُهادك البهجة، كلما غصت بيَ الدنيا أو ضاق أفق أحلامي أذكر تلك القصيدة الصغيرة التي كنت تنشدها لي في كل مكانٍ.

اليوم بعد ستة عشر عاماً من وفاة والدي و ذكرى وفاة جدتي أقول "اشتقت لـ بابا .. اشتقت لـ سيدو.. اشتقت لـ ستو".
 

سلامٌ على أرواحكم الطاهرة التي لم تمنحنا يوماً إلا السعادة والأمان والبهجة، فكل فرحٍ بعدكم عشناه منقوصاً، جدي يا مهجتي أنت، لا زلت تزرع في سُهادك البهجة، كلما غصت بيَ الدنيا أو ضاق أفق أحلامي أذكر تلك القصيدة الصغيرة التي كنت تنشدها لي في كل مكانٍ نذهب إليه سوياً ونعود محملين بكل سعادة الأطفال في هذا العالم "بهجةُ النفسُ سهاد.. ولها غنّى الفؤاد.. لكِ ما عشت حناني.. لكِ حبي والوداد.. إنني أبصرتُ أمي.. حينما هلّت سهاد".
جدكِ "عادل"..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان