لمياء حكيم.. طفلة القمر التونسية التي حاربت الشمس بالفن والدكتوراه والزواج

من حفل زفاف لمياء طفلة القمر وزوجها سفيان بمنزل العائلة في تونس (الجزيرة)

يعيش أطفال القمر أو المصابون بمرض جفاف الجلد المصطبغ معركة يومية سقف طموحهم فيها هو البقاء على قيد الحياة. كرّ وفرّ بين أطفال ينازعون الشمس حق البقاء، ولكنها كثيرا ما تنتصر فتضطرّهم إلى الانسحاب في الحجرات المظلمة أو التخفي خلف أقنعة وملابس واقية تحجبهم وأحلامهم في عالم خاص جدا.

والاسم العلمي لمرض أطفال القمر هو "جفاف الجلد المصطبغ"، "زيروديرما بيغمنتوزم" (Xeroderma pigmentosum)، وهو مرض وراثي نادر يصيب قرنية العين والجلد اللذين يصبحان حساسين تجاه الأشعة فوق البنفسجية الموجودة بأشعة الشمس وحتى في مصابيح الإضاءة العادية، وتم اكتشافه لأول مرة عام 1870.

لمياء حكيم شابة تونسية (28 سنة) مصابة بهذا المرض ولكن الشمس لم تستطع إرغامها على الانسحاب واختارت أن تعيش تحت الأضواء وألا تهاب الشمس، فهي الممثلة المتميزة في شريط "بنت القمرة" الذي يحكي أحلام ومعاناة أطفال القمر، هي أيضا تضع اللمسات الأخيرة لأطروحة دكتوراه في علم الجينات والوراثة، وأخيرا أعلنت زواجها لتكون مثالا ومنارة يهتدي بها أمثالها ممن أصابهم هذا المرض.

ويسود المعتقد بعدم قدرة أطفال القمر أو غيرهم من المصابين بأمراض مزمنة أخرى على تكوين أسرة وخوض غمار الحياة الاجتماعية بشكل طبيعي، ويرجع ذلك إلى قصور في الفهم إضافة إلى شحّ التجارب المماثلة لتجربة لمياء حكيم مما يجعل الجميع يتوجس خيفة من صمود هذه الزيجات نظرا للتغييرات الكبيرة التي ستطرأ على حياة أحد الطرفين.

في منزلهما.. لمياء برفقة زوجها الذي أصر أن يخوض المعركة معها ضد مرضها (الجزيرة)

تردّد ثم فرحة

تقول لمياء في مستهل حديثها للجزيرة نت إنها سعيدة للغاية بحياتها الجديدة ولاسيما أن الأمور سارت أفضل مما توقعت في البداية، حيث لقيت قبولا من عائلة عريسها ومن أصدقائه المقربين إضافة إلى الشخصية المتميزة لزوجها الذي لم يضع هذا التفصيل في اعتباره إنما تعامل مع شخصيتها الاستثنائية.

تضيف في هذا الإطار أن الثقافة الاجتماعية والوعي بضرورة قبول اختلاف الآخر لا يتطلّبان تكوينا أكاديميا أو جامعيا فهي أشياء تولد مع الإنسان ثم يجبل عليها بمرور السنين، موضّحة أن والدة زوجها فاجأتها بتعاطيها بإيجابية كبيرة مع حالتها الخاصة، إيجابية لم تشهدها ربما مع مدعي الثقافة والتطور، والحال أنها ربّة بيت قضت حياتها في تربية أبنائها والسهر عليهم.

تتذكّر لمياء كيف فاتحت عائلتها بتقدّم عريس لخطبتها، لحظات علقت بذاكرتها ولاسيما عندما اشترط والدها السيد نعمان عليها وعلى زوجها المستقبلي أن تقوم بلقاء مباشر مع والدته لعلمه بأن التقاليد التونسية ونجاح العلاقات الزوجية يرتبط أساسا في ثقافتنا العربية بمباركة كل الأطراف خاصة فيما يتعلّق بلمياء التي يخشى عليها من الشعور بالإحباط والانكسار، وهي التي حارب الشمس من أجلها منذ طفولتها.

لمياء صحبة زوجها في صورة تذكارية على شاطئ البحر وهي تغطي وجهها لتتجنب أشعة الشمس (الجزيرة)

عالم جديد وسعيد

الانتقال من مرحلة العزوبية إلى الزواج يكون في الغالب مشوبا بنوع من القلق الممزوج بالانتظار لاكتشاف عالم جديد يحمل مسؤوليات جديدة وجسيمة في الوقت نفسه لبناء أسرة والمحافظة عليها، الأمر لم يختلف عند السيّد سفيان شبك زوج لمياء رغم علمه بالنسق الحياتي الخاص لزوجته الذي يتطلب تدابير خاصة لضمان سير الحياة بصفة طبيعية.

يقول سفيان للجزيرة نت إن المعادلة بسيطة جدّا ولا تحتاج إلى تعقيدات، هو معجب بزوجته ويرى أن إصابتها بمرض أطفال القمر لا تستوجب كل هذا التعقيد والتهويل، فالحياة معها تتطلب فقط ترتيبات بسيطة أثناء الخروج لحمايتها من أشعة الشمس وما عدا ذلك فالحياة تسير بنسق عادي في البيت.

ويضيف أنه لن ينسى كلمات أمه عندما فاتحها في موضوع زواجه من لمياء، حيث قالت له "إن لكل إنسان ابتلاء ينزله المولى لكلّ على قدر تحمّله، ولعل الله وفّق بينكما لتنال شيئا من الثواب الذي كسبته زوجتك، انظر إلى جوهر الأمور ودع عنك التفاصيل الزائلة". الموقف نفسه المشبع بالحكمة تبنّاه جميع أفراد أسرته دون استثناء، حسب قوله.

وبخصوص نظرة المجتمع تضيف لمياء أنها واجهت مواقف كثيرة وصعبة، وأحيانا مضحكة لردود أفعال أشخاص يجهلون مرضها فيستغربون من زيّها الواقي ومن قناعها، ولكنها منذ أن ارتبطت بسفيان وجدت فيه خير سند لها في مثل هذه المواقف التي لا تزيدهما إلا تماسكا وارتباطا.

لمياء وزوجها سفيان يتجولان في أزقة المدينة العتيقة في تونس العاصمة (الجزيرة)

أرقام

يبلغ عدد الأشخاص المصابين بمرض جفاف الجلد المصطبغ حوالي ألف حالة في تونس، وهو رقم مفزع إذا ما عرفنا أنه يمثل نسبة 14% من عدد مصابي العالم البالغ تقريبا 7 آلاف حالة.

ويقول الدكتور محمّد الزغل -اختصاصي الأمراض الجلدية وأحد مؤسسي جمعية مساعدة أطفال القمر في تونس- إن التطور الذي شهدته البلاد في كيفية وأساليب الإحاطة بهم جعلت هذه النسبة تبدو ثانوية مقابل تطوّر نسب التدرج في التحصيل العلمي إضافة إلى تحسن ملحوظ في عدد الملتحقين منهم بسوق العمل واندماجهم في حياة أسرية واجتماعية عادية.

لمياء قصّة واقعية بعيدة عن سرديات المثل والمواعظ المعدة للعبر ولشحذ الهمم، قصّة تمشي على الأرض جعلت من ضعفها محفّزا على التألّق والنجاح، فلم تستكن ولم تستسلم بل لا تزال ماضية في مواجهة الشمس ولكنها هذه المرة لا تواجهها وحيدة بل برفقة زوج أبى إلا أن يخوض هذه المعركة معها.

المصدر : الجزيرة