كيف وظفت ناميبيا تاريخ "الإبادة الجماعية" لإحراج ألمانيا؟
برلين- في الوقت الذي لم تتوصل فيه ألمانيا لاتفاق شامل مع ناميبيا يتيح طيّ صفحة الإبادة الجماعية بحق شعبي هيريرو وناما خلال الحقبة الاستعمارية، جاءت الانتقادات الكبيرة من ناميبيا لألمانيا، بسبب دعم هذه الأخيرة لإسرائيل، لتزيد من الضغوط على برلين، مما قد يهدد الاتفاق الهش الذي وقعته سابقا مع الحكومة الناميبية.
وربط الرئيس الناميبي هاكه كينكوب -في بيان- بين وقوف ألمانيا إلى جانب إسرائيل في الدعوى التي رفعتها ضدها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وبين "عجز ألمانيا عن استخلاص الدروس من تاريخها الرهيب".
وتتعاطف المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا (سوابو)، وهو الحزب الحاكم في ناميبيا، مع فلسطين بشكل كبير، بحكم أن الحزب أسس لأجل الاستقلال عن جنوب أفريقيا.
اتفاق هش
ويعدّ الانتقاد الناميبي في غاية الحساسية بالنسبة لألمانيا، بحكم اتهامه لبرلين بـ"تجاهل أعمال الإبادة الجماعية المروعة التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية"، مع تذكيرها بماضيها مع "الإبادة الجماعية" التي اعترفت برلين بوقوعها في ناميبيا، بناء على اتفاق عام 2021 مع حكومة ناميبيا. وبموجبه قرّرت ألمانيا دفع 1.1 مليار يورو كمساعدات تنموية للدولة الأفريقية.
بيد أن الاتفاق لم يقبله كثير من القياديين والشخصيات من أحفاد ضحايا الإبادة، بحجة أن المفاوضات تمت مع الحكومة، وليس مع المتضريين، كما أن التعويض موجه حصرا للدعم التنموي، ولن تستفيد منه العائلات والأسر المتضررة.
وقالت برلين من جانبها، إن ناميبيا تتوفر على حكومة ديمقراطية، وبالتالي لا يمكن إجراء تسويات مع أفراد أو مجموعات. كما دعم الاتفاق بعض الشخصيات الأخرى من قبيلة هيريرو الذين كانوا حاضرين في المفاوضات.
"الحكومتان، الألمانية والناميبية، اعتقدتا أن دعوة ممثلين عن القبائل متروك لتقديراتهما السياسية، وهذا غير صحيح، لأنه وفقا للقانون الدولي العرفي، فمشاركة المجتمعات المتضررة ضرورية، كما أن التدابير الإصلاحية غير كافية، ولذلك عليها التراجع عن الاتفاق ومباشرة عملية جديدة"، تقول كارينا تويره، خبيرة في القانون الدولي، للجزيرة نت.
ورفع زعيم "حركة الناس المعدمين" برنادوس سوارتبوي و11 ممثلا عن القبائل المتضررة دعوى قضائية ضد السلطات في بلاده أمام المحكمة العليا، لم تبت فيها بعد، كما لم تعرض الحكومة الناميبية مسودة الاتفاق أمام البرلمان للتصويت عليها، بسبب الانقسام الواقع حيالها، مما يجعل الاتفاق غير ساري المفعول.
اعتراف غير مقنع
وارتفعت الأصوات داخل ناميبيا بانتقاد المواقف الألمانية الأخيرة، وقال أسوتوايجي مامبيروا، الرئيس السابق للاتحاد الوطني لجنوب غرب أفريقيا إن "رفض ألمانيا الاعتراف بالفظائع المستمرة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين هي محاولة للهروب من الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في ناميبيا"، قائلا إن برلين "لن تتمكن من محو تاريخ بلاده"، حسب ما نقلته صحيفة "ذا ناميبيان".
ولكن ألمانيا اعترفت أكثر من مرة بالإبادة في ناميبيا، وذكرت الخارجية الألمانية في بيان عام 2021 أنها "لا تتحفظ ولا تتردد في تسمية الفظائع التي ارتكب ما بين 1904 و1908 بالإبادة الجماعية"، وأكدت أنه "نظرا للمسؤولية التاريخية والأخلاقية التي تتحملها ألمانيا، فهي تطلب الصفح من ناميبيا وأحفاد الضحايا".
وكانت ناميبيا تمثل جزءا من المستعمرات الألمانية في عدة مناطق في أفريقيا، في الفترة ما بين 1884 و1918، إلى جانب دول رواندا وبوروندي وتنزانيا وغانا وتوغو والكامرون.
وقد تخلّت ألمانيا عن مستعمراتها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، لكن رحيل ألمانيا لم يمنح لهذه المستعمرات الاستقلال، إذ بقيت تحت سطوة دول وقوى أخرى، مثل ما وقع لناميبيا التي بقيت تحت سيطرة جنوب أفريقيا إلى غاية 1990.
وتتمتع ناميبيا، التي كانت تسمى بجنوب غرب أفريقيا، بأهمية خاصة، حيث استقبلت حوالي نصف المستوطنين الألمان في أفريقيا، بسبب موقعها الإستراتيجي وغناها بالموارد الطبيعية. واستولى الوافدون على الأراضي، وانتهكوا حقوق السكان خصوصا في استغلالهم في أعمال السخرة.
ولأجل إخماد تمرّد السكان، لجأت القوات الألمانية إلى قمع عنيف أدى إلى مقتل حوالي 65 ألفا من شعب هيريرو (80% من عدد القبيلة)، و10 آلاف من شعب ناما (50%)، حسب أرقام جامعة بون الألمانية، ومن تبقوا عانوا من قمع كبير.
بيد أن هناك من يرى أن بيان الرئيس الناميبي يأتي لتخفيف الانتقادات الداخلية بسبب اتفاقه السابق مع ألمانيا. "الدعوى أمام المحكمة العليا الناميبية موجهة ضد سلطات الدولة الناميبية، بما فيها الرئيس، لأنها انتهكت رفقة ألمانيا القانون الدولي"، تقول كارينا تويره.
وتتابع تويره التي تعمل مستشارة قانونية ألمانية لمكتب المحاماة الذي رفع هذه الدعوى "الآن يحاول الرئيس كينكوب تقديم نفسه والحكومة الناميبية كجهات فاعلة تقاتل ضد الإرث الاستعماري"، بينما في الإعلان المشترك، كان متواطئا في إعادة إنتاج الأنماط الاستعمارية".
الملف التنزاني الذي ينتظر
بيد أن لألمانيا ملفا ساخنا آخر يتعلق بالتعويضات المنتظرة لصالح تنزانيا، حيث وقعت في جنوبها الانتفاضة المعروفة باسم "ماجي ماجي" التي قادها قبائل في شرق أفريقيا ضد المستعمر الألماني ما بين 1905 و1908. وشكلت تنجانيقا (الاسم السابق لتنزانيا) وبورندي ورواندا محمية شرق أفريقيا الألمانية.
وسقط في هذه الحرب ما بين 250 ألفا و300 ألف قتيل (حوالي ثلث السكان التنزانيين حينها)، جلهم بسبب المجاعة إثر تدمير الحقول، وفق المركز الألماني الاتحادي للتثقيف السياسي.
وطلب الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير قبل أسابيع "الصفح" عما جرى خلال زيارة لتنزانيا، وأكد استعداد بلاده لإجراء "تسوية مشتركة"، في حين صرحت الرئيسة التنزانية سامية صولحو حسن أن بلادها بدورها مستعدة لإجراء مفاوضات رسمية.
وترى تويره أن القوى الأوروبية عموما بدأت تدرك "أنها سوف تضطر إلى مواجهة تراثها الاستعماري"، ولكن الأهم هو "إنشاء إطار دولي بشأن الحد الأدنى من المعايير القانونية، على ضوئه يتم التفاوض مع الدول والمجتمعات المتضررة".
ورفعت جمعيات تنزانية عدة مطالب بالتوازي مع زيارة الرئيس الألماني. وقالت -في بيان لها- إن جنوب تنزانيا التي شهدت الحرب لا تزال تعيش الفقر مقارنة ببقية المناطق، وطالبت بالإضافة إلى الاعتذار، بمفاوضات تؤدي إلى تعويض المجتمعات المتضررة، وإعادة رفات وجماجم المقاتلين التنزايين وكذلك "الكنوز الثقافية" من ألمانيا.
ولكن الاختلاف الأكبر بين ناميبيا وتنزانيا في هذا الإطار هو اختلاف الاهتمام بالقضية الفلسطينية، إذ لا تحفل بالاهتمام ذاته لدى النخبة الحاكمة حاليا في تنزانيا، التي عملت مؤخرا على الحفاظ على "موقف متوازن" في العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
لكن تنزانيا كانت من المصوتين على وقف إطلاق النار في غزة. وشأنها شأن جلّ الدول الأفريقية، تعترف تنزانيا بفلسطين، كما كانت أول بلد أفريقي يفتح سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية، عام 1973، إذ كان القائد التنزاني التاريخي جوليوس نيريري من أشد الداعمين لفلسطين في أفريقيا.