نحو 2500 تلميذ بحاجة لدعم نفسي عاجل.. حالات هلع وفقدان نطق ترافق أطفال مخيم جنين
جنين- وسط الحجارة والركام في الغرفة التي كان من المفترض أن تكون خاصته وشقيقته، يحاول الطفل فادي الغول اللعب بمجموعة من السيارات والجرافات البلاستيكية، يحاول نقل الركام بشاحنته الصغيرة، لكن تتعثر خطواته بأكوام الطوب، بينما يجلس جده وأعمامه خلف الجزء المتبقي من جدار المنزل الذي قصفه الاحتلال الإسرائيلي.
يسكن فادي الغول (5 أعوام) مع عائلته في حارة الحواشين وسط مخيم جنين للاجئين شمال الضفة الغربية، وصباح الثالث من يوليو/تموز الجاري، اقتحمت قوات الاحتلال منزلهم المكون من طابقين، واعتقلت والده واثنين من أعمامه أمام عينيه، ودمرت المنزل وخربت أثاثه، وسرقت حصالة شقيقته، إضافة إلى مبلغ من المال كان يدخره جده، ومع ساعات المساء، أخبرت العائلة أن منزلهم سيتم قصفه.
"خرجنا من المنزل عند العاشرة من ليل يوم الاثنين، قالوا لنا إن المنزل سيقصف مع غيره من المنازل في المخيم، توجهنا إلى منزل ابنتي خارج المخيم، وعند الصباح كانت الأخبار تصلنا بأن المنزل قصف" هكذا بحسرة يصف الجد أبو جهاد الغول ما حدث.
بعد عودة العائلة إلى المنزل بحث الطفل فادي عن سماعته، فوجدها مكسورة، وكان يمشي فوق ركام المنزل ويسأل جده "لماذا قصفوا سماعتي؟ حتى حذائي قصف، ماذا يريدون من الحذاء".
البحث عن مرشد نفسي
يقول الجد أبو جهاد إن رؤية فادي لوالده وقت اعتقاله، ومشاهدة الأعداد الكبيرة من جيش الاحتلال وهي تعيث خرابا في المنزل وتحطيم الأثاث، أصابته بالصدمة، وبعد رؤيته للمنزل بعد القصف وألعابه وأغراضه المدمرة فقد الرغبة في الكلام، أصبح صامتا لا يبادلنا الحديث، مضيفا "رفض الطعام في البداية، ولم يبك أبداً على عكس شقيقته التي بكت كثيراً، لم يبد أي ردة فعل عصبية كان هادئاً بطريقة مخيفة، قلت حركته وتفاعله معنا".
وأكد أن هذه الأعراض استمرت خلال اليومين اللاحقين لخروج قوات الاحتلال من المخيم، في حين حاولت العائلة التخفيف من وقع ما حدث عليه بالتحدث معه وطمأنته على والده الذي لا يزال رهن الاعتقال، إضافة إلى إبعاده عن المنزل والمخيم لبعض الوقت كي ينسى ما جرى.
يقول أبو جهاد "أنا أبحث له عن مرشد نفسي، أو دورة تقدم دعماً نفسياً للأطفال في حالة الحروب، هذا أمر في غاية الأهمية، لأن ما حدث ثقيل جداً على نفسية الأطفال، وأكبر من قدرتهم على الاحتمال، وهو ثقيل جداً علينا نحن الكبار، ونحن أيضاً نحتاج لدعم نفسي. هذا أمر مؤكد".
نوبات هلع وصراخ مستمر
في الشارع العلوي من حارة الحواشين، وهي الحارة التي نسفت بشكل كامل في اجتياح مخيم جنين عام 2002، وأعيد بناؤها بعد ذلك، كانت جنى البيطاوي (13 عاما) تعود من مدرستها إلى المنزل، حين التقتها الجزيرة نت برفقة جدتها أم هيثم البيطاوي.
خرجت جنى وجدتها وعائلتها المكونة من 6 أفراد من منزلهم، حين أعلن عن نية إسرائيل قصف المنازل في المخيم، وفي طريقها إلى مستشفى جنين الحكومي وهو أقرب نقطة آمنة لمنزلها، تفاجأت جنى بوجود الآليات العسكرية وعدد من قوات الاحتلال في الشارع، فأصيبت بنوبة هلع شديد، ودخلت في نوبة من الصراخ ولم تجد معها كل محاولات جدتها في تهدئتها.
تقول جنى "هذا أمر أراه لأول مرة في حياتي، أنا صغيرة ولم أعش حياة النزوح والقصف التي عاشها والداي من قبل، خفت كثيراً فكرت أن جنود الاحتلال قد يطلقون النار علينا ونحن نهرب".
وبعد وصول جنى إلى المستشفى ثم نقلها وعائلتها إلى منزل أحد الأقارب، بدأت تظهر عليها علامات الصدمة وفزع أثناء النوم، حيث كانت تستفيق من نومها مرعوبة وهي تصرخ وتتخيل أن جيش الاحتلال الإسرائيلي جاء لقتلهم كما تقول.
تقول الجدة إن جنى "دخلت في صدمة كبيرة لأنها خافت كثيرا، استمرت بالصراخ حتى بعد نقلنا من المستشفى إلى منزل قريبنا في تلك الليلة، وفي اليوم التالي لاحظنا عليها العصبية والتوتر، وأصبحت تستيقظ من النوم وهي تقول أنا أراهم هنا، سيأتون إلينا، هاهم يقفون هناك".
وحتى اليوم تشعر جنى بالتوتر وترفض الذهاب إلى المدرسة وحدها، لأنها تخاف، وتلاحظ عائلتها تزايد نوبات العصبية عندها.
رفض الذهاب إلى المدرسة
ومثل جنى عاش آدم السعيد (13 عاما) حالة هلع قوية، رافقته خلال تمركز قوات الاحتلال في الطابق الأرضي لمنزله، كان يشعر بالرعب حين يسمع أصوات تحركاتهم أو إطلاقهم للنار.
تقول والدته آمال السعيد "آدم شعر بالخوف الشديد طوال فترة بقاء جيش الاحتلال في المنزل، وبعد خروجهم طلب مني أن نترك المخيم ونذهب للعيش في مكان آخر، قال لي أنت لا تحبيننا، لو كنت تحبيننا لأخرجتيننا من هذا المخيم".
وتؤكد أن آدم أصبح يتجنب الخروج للشارع واللعب مع أطفال الحارة في المخيم، وأنه دائم الانعزال في المنزل، بالإضافة لرفضه الذهاب إلى المدرسة، مضيفة أن مدير المدرسة اتصل بها أمس للسؤال عن آدم "وطلب مني إحضاره للمدرسة ليجلس مع المرشد النفسي والتحدث إليه لدعمه نفسيا".
تدخل خلال 72 ساعة
في هذا السياق، يرى الطبيب ناصر مطر المختص في علاج ما بعد الصدمة والمسؤول السابق بوحدة التحرك التابعة لوكالة الأمم المتحدة لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" أنه من المهم جدا أن يتلقى الأطفال تدخلا نفسيا سريعا خلال أول 72 ساعة بعد أي صدمة نفسية يتعرضون لها، لأن الأعراض المترتبة على الصدمة تظهر غالبا بعد مرور هذه المدة.
وأضاف مطر "في البداية يجب تأمين الملجأ الآمن للأطفال، ثم توفير تدخل من المحيط وهو الأهل والأقارب والجيران، بحيث يشمل السماح لهم بالتعبير عن مشاعرهم وإخراج كل ما يحسون به، حتى لو كان عن طريق الصراخ مثلاً أو البكاء، ويجب تقبل كل ما يصدر عنهم والسماح لهم بالتعبير عنه بأريحية".
وتابع الطبيب المختص "بعد مرور 72 ساعة نبدأ بما يسمى التدخل العاجل أو السريع، ويكون بوجود أخصائيين نفسيين يقدمون الدعم النفسي للأطفال، لأن حالات القلق والخوف الشديد إذا لم يتم التعامل السريع معها قد تتطور إلى حالات اكتئاب وأعراض أكثر خطورة، تتحول لمرضية وتحتاج إلى علاجات دوائية".
ويفصل المتحدث هذه الأعراض بأنها: قلق وخوف، مشاكل في النوم قد تتطور إلى أرق، إضافة للعزلة وعدم الرغبة بالخروج من المنزل أو الاختلاط مع المحيط.
ويقول إن من الضروري إشراك الأطفال في برامج الرعاية من الصدمة النفسية، وهو برنامج منهجي تسلسلي يقسم الأطفال ضمن مجموعات حسب الفئات العمرية، ويبدأ البرنامج في إعطاء الأطفال تدريبات تتضمن الرسم والصور وحلقات التعبير عن النفس، كل ذلك بغرض التفريغ النفسي حتى يصل الأطفال للقدرة على التعبير عن خوفهم ومشاعرهم بطريقة صحيحة ومريحة.
ولفت مطر إلى ضرورة مراعاة عدم تأخر التدخل النفسي للأطفال عن 100 يوم من وقوع الصدمة، لأن ذلك يعني تطور الأعراض الأولى إلى مراحل أخطر، وقد تشمل الجوانب الأربعة المتعلقة بصحة الطفل وهي: النفسي والعقلي والسلوكي والاجتماعي.
وأكد أن المجتمع الفلسطيني معرض لصدمات مستمرة، مضيفا "وهذا ما يؤكد حاجتنا الدائمة للدعم النفسي والخطط العلاجية، من المهم أن يتلقى الكبار الحاضنون للأطفال الدعم النفسي أولا أو جنبا إلى جنب مع الأطفال، لأن الأهل الذين يعانون من صدمات نفسية لا يمكن أن يتعاملوا بشكل صحيح مع أطفالهم عند الأزمات".
وأوضح الطبيب أن الأعراض السلوكية هي العنف والعصبية ورفض الواقع، بينما تتمثل الجسدية في ارتفاع ضغط الدم و وآلام المعدة التي قد تتطور إلى آلام ومشاكل في القولون العصبي، والصداع والاستفراغ ومشاكل الجهاز الهضمي، بينما تظهر الأعراض الاجتماعية في القلق والخوف والأرق والعزلة والرهاب، والجانب الرابع المتمثل في الجانب العقلي ويظهر عليه أعراض النسيان وعدم التركيز والتشتت وعدم القدرة على الانتباه وغيرها.
ويؤكد أن نحو ألفين إلى 2500 طالب في مدارس "الأونروا" في مخيم جنين يحتاجون إلى ورشات دعم نفسي بشكل عاجل.