"لسنا معادين للسامية".. معركة فنانين ومثقفين في ألمانيا لأجل الحق في التعبير

طال المنع في ألمانيا المظاهرات الداعمة لفلسطين ووصل لمنع الفعاليات الثقافية والأدبية (غيتي)

برلين – لأجل البدء في معركة قضائية ستكون مطولة ضد بلدية برلين، احتاج المركز الثقافي "عيون" إلى مبلغ 72 ألف يورو من المتبرعين المؤمنين بحرية التعبير وحرية الفن في ألمانيا، و لم تمر سوى بضعة أيام على إطلاق حملة التبرعات، حتى تمكن المركز من جمع مبلغ أكبر.

التبرعات هي مسألة حياة أو موت بالنسبة للمركز الثقافي الموجود في ضاحية "نيوكولن" حيثُ تعيش جالية عربية كبيرة، وذلك بعد قرار مجلس الشيوخ في المدينة (الهيئة التنفيذية) وقف تمويل المركز، إذ كان يقدم له مليون يورو سنويا لدعم أنشطته التي تتركز على دعم المشاريع الفنية والثقافية من زاوية إنهاء الاستعمار ودعم الأصوات النسوية والمهاجرة.

وبحسب إدارة المركز، فإن سبب وقف الدعم هو احتضان المركز لندوة لجمعية "الصوت اليهودي لسلام عادل في الشرق الأوسط"، الداعمة لحقوق الفلسطينيين ولحركة المقاطعة "بي دي إس" (BDS). وعلمت إدارة مركز أن مجلس المدينة يخطط لإغلاقه في أجَل 5 أسابيع، لتقرر طرق أبواب القضاء.

في هذا السياق، تقول مديرة المركز لونا سبو "تم ربط تلك الندوة وكذلك مركزنا بمعاداة خفية للسامية، بدون إجراء أيّ تحقيق في هذا الادعاء"، مضيفة أن قرار مجلس برلين بوقف التمويل "يتعارض مع وعده بضمان الدعم المالي حتى نهاية عام 2025 على الأقل".

من جانبه، نقل موقع "تاغز شبيغل" أن المجلس لم يعلن رسميا عن إلغاء التمويل، لكنه يناقش منح البناية المملوكة للدولة إلى جمعية أخرى، خصوصا إثر ارتفاع الانتقادات تجاه أنشطة المركز فيما يخصّ استضافة أنشطة تنتقد إسرائيل بقوة.

وأكد الموقع الألماني أن المجلس وعد المركز الثقافي بدعم يصل إلى 2025، بينما يقول المجلس إن الوعد غير ملزم، ويمكنه إنهاء التمويل هذا العام.

صورة المتحدثة لونا سبو في المرفقات (حقوق الصورة: خاص)
لونا سبو مديرة المركز الثقافي "عيون" في برلين: تم ربط مركزنا بمعاداة السامية بدون تحقيق (الجزيرة)

إلغاء متكرر

قرارات السلطات الألمانية لا تعني فقط "إنهاء عمل عدد من الفنانين، ولكن كذلك إغلاق فضاءات للمشاركة الثقافية"، بحسب لونا سبو، مستدركة أن هذه "القرارات التعسفية جزئيا هي دعوة للاستيقاظ من أجل حرية التعبير والتنوع الثقافي في ألمانيا".

لكن الأمر لا يخصّ فقط هذا المركز، فقد ألغت السلطات الألمانية في عدة مدن دعوة فنانين وكتاب وأساتذة جامعيين بسبب آرائهم، كما حُظرت عدة أنشطة خلال الأسابيع الأخيرة.

وباتت قرارات الإلغاء باتهامات "معاداة السامية وكراهية إسرائيل" خبرا شبه يومي في ألمانيا منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، خصوصا أن برلين تعتبر أمن إسرائيل ودعمها "مصلحة وطنية عليا".

وأحصت الجزيرة نت إلغاء 10 فعاليات على الأقل خلال الأسابيع الماضية لهذه الأسباب. منها إلغاء متحف في إيسن (غرب البلاد) عرضا فنيا لأنيس دوبلان، وهو فنان من دولة هاييتي بسبب مواقفه الداعمة لفلسطين. وكذلك فَعل معرض في مدينة ساربروكن (غرب) مع الفنانة اليهودية الجنوب أفريقية كانديس بريتس، التي انتقدت إسرائيل بقوة مؤخرا.

كما استقال فريق معرض "دوكومنتا" للفن الألماني المعاصر، بشكل جماعي، للضغوط الكبيرة التي تعرض لها، خصوصا إثر جدل توقيع أحد أعضائه على عريضة لمقاطعة إسرائيل. وأشارت رسالة الاستقالة إلى استحالة "تنظيم عرض فني يسمح بوجهات نظر وتصورات وخطابات متنوعة".

Bangladeshi Renowned photographer Shahidul Alam speaks in a protest rally organized Socialist Student Front demanding against rape in Dhaka, Bangladesh, on October 2, 2020 (Photo by Mamunur Rashid/NurPhoto via Getty Images)
مجلة التايم اختارت المصور شاهيدول علام، من بنغلاديش واحدا من شخصيات عام 2018، المعروف بدعم فلسطين (غيتي)

حركة مقاطعة إسرائيل

وقد يصل الأمر إلى الأدب، كإلغاء حفل تتويج رواية الفلسطينية عدنية شبلي "تفصيل صغير" في معرض فرانكفورت، لمجرد أن الرواية تتحدث عن النكبة. كما قررت الكاتبة الألمانية البريطانية شارون دودوا أوتو، التنازل عن جائزة أدبية كانت ستحصل عليها في مدينة بوخوم هذا الشهر، بعد إعلان بلدية المدينة التحقيق في توقيع الكاتبة لنداء لمقاطعة إسرائيل عام 2015.

كما ألغت 3 مدن ألمانية فعالية "بيناليه" للتصوير الفوتوغرافي المعاصر، وهي التي كانت ستستقبل أعمال 3 مصورين من بنغلاديش. وقالت إدارة الفعالية إن أحد المصورين، وهو شاهيدول علام، قد "نشر منشورات معادية للسامية"، كما رفض حذف تعليقات "عنصرية" وهو ما لا يمكن قبوله "نظرا للمسؤولية التاريخية لألمانيا تجاه إسرائيل"، وفق تعبيرها.

علام، الذي اختارته مجلة التايم واحدا من شخصيات عام 2018، هو ناشط داعم لفلسطين، أكد أنه معادٍ للصهيونية ولكن ليس للسامية. كما تضامن معه المصوران الآخران ورفضا الحضور إلى الفعالية، كما حكم بإلغائها.

ويعود جزء كبير من قرارات الإلغاء إلى مواقف تدعم حركة مقاطعة إسرائيل، المصنفة معادية للسامية في ألمانيا منذ 2019 بقرار من البرلمان الألماني، وهو القرار الذي يدعو الولايات والبلديات الألمانية إلى الامتناع عن دعم فعاليات تنظمها هذه الحركة.

لكن القرار لا يزال يثير جدلا، وفي الوقت الذي قضت فيه المحكمة الإدارية في برلين أنه لا ينتهك القانون، فقد أصدرت 7 محاكم على الأقل قرارات لصالح نشطاء على علاقة بالحركة لتنظيم فعالياتهم في وجه منع السلطات، حسب بيان للمركز الأوروبي للدعم القانوني.

Israeli historian and academic Ilan Pappe, pictured at the Edinburgh International Book Festival where he talked about his new book entitled 'The Rise and Fall of the Palestinian Dynasty.' The three-week event is the world's biggest literary festival and is held during the annual Edinburgh Festival. The 2010 event featured talks and presentations by more than 500 authors from around the world. (Photo by Colin McPherson/Corbis via Getty Images)
بلدية ميونخ منعت محاضرة للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي (غيتي)

منع متكرر

مؤخرا حاولت بلدية ميونخ منع محاضرة للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي حول مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، غير أنّ المنظمين من جمعية "سلام شالوم" اتجهوا للقضاء، واستطاعوا الحصول على حكم لصالحهم، وانعقدت المحاضرة أخيرا.

وقالت جمعية "ميونخ ملونة" التي احتجت على الحدث في بلاغ لها إن المحاضرة "من المتوقع أن تتمحور حول التشكيك في حق إسرائيل في الوجود أو إنكاره، ما قد يؤدي إلى نتائج منها "نشر معاداة السامية العدوانية المرتبطة بإسرائيل"، وذكرت أن الحدث يأتي في وقتٍ "تتزايد فيه الجرائم المعادية للسامية"، وهو ما سيكون له آثار سلبية على النظام العام حسب تعبيرها.

و"قد يعتقد المرء أن ظهور مؤرخ يهودي إسرائيلي في ميونخ يجب أن يحظى بحماية خاصة، بحكم الحديث المستمر عن حماية اليهود في ألمانيا، لكن محاولة بلدية ميونخ حظر المحاضرة يُظهر أن هناك مآرب أخرى تخصّ قمع الآراء"، بحسب حديث ناشط ألماني مقيم في ميونخ للجزيرة نت.

وأضاف الناشط الحقوقي، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن محاولة منع المحاضرة "لا يمكن تصنيفها إلا كجزء من تضييق عام على فعاليات داعمة لفلسطين"، لافتا إلى أن الأمر يؤثر "بشكل خاص على الفلسطينيين، الذين يتم تقييد حريتهم في حرية التعبير، رغم قصف عدد من معارفهم في غزة"، وكذلك على "اليهود والإسرائيليين المتضامنين مع الفلسطينيين".

ولم تكن هذه المرة الأولى التي تحاول فيها بلدية ميونخ منع محاضرة لإيلان بابي، صاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين"، إذ سبق للبلدية أن ألغت حجز القاعة التي كان سيدلي فيها بمحاضرة عام 2009.

وفي وجه هذا المنع المتكرر، أكدت لونا سبو، مديرة مركز عيون الثقافي، ضرورة أن يعمل المتضررون على إعادة تنظيم أنفسهم حتى يستمروا في ظل "مشهد ثقافي عدائي". مضيفة أنه يجب -أكثر من أيّ وقت مضى- "أن نقف معا لمحاربة الادعاءات الكاذبة والسعي نحو التنوع الثقافي وحرية التعبير".

المصدر : الجزيرة