رواتب هزيلة وقطاعات حيوية تعاني.. موجة استقالات غير مسبوقة في مناطق النظام السوري

صورة للوظيفة العامة في الشركة العامة للدراسات الهندسية في دمشق_فيسبوك
متوسط رواتب موظفي القطاع العام في مناطق النظام لا يتجاوز 30 دولارا (مواقع التواصل)

دمشق- لم يتمكن محمود (49 عاما)، وهو مدرس مادة الرياضيات في مدرسة ثانوية عامة في دمشق، من الحصول على موافقة على استقالته رغم تقديمه لها مؤخرا للمرة الثالثة خلال العامين الماضيين.

ويمضي الأستاذ 14 ساعة يوميا في التدريس منذ 8 أعوام. وفي أوقات الذروة، خلال الفصل الدراسي الثاني، قد تصل تلك الساعات إلى 18 ساعة، وتتوزع ما بين المدرسة والدروس الخصوصية التي يقدمها لطلبة الشهادة الثانوية العامة بعد نهاية الدوام الرسمي.

يقول محمود للجزيرة نت "لم أعد شابا، ولم يعد بإمكاني تجاهل وضعي الصحي والعمل كل تلك الساعات، ولا يمكنني التخلي عن الدروس الخصوصية؛ فهي موردي الوحيد بعد أن بات راتب الوظيفة رمزيا. وبالرغم من تقديمي تقارير طبية تبين خطورة وضعي الصحي، فإن طلب الاستقالة يعود دائما مع الرفض".

وعلى غرار الأستاذ محمود، يعتمد عشرات الآلاف من موظفي القطاع العام في سوريا على وظائف أخرى يعملون بها بعد انتهاء دوامهم الرسمي، لا سيما بعد أن أصبح متوسط الرواتب في القطاع لا يتجاوز 30 دولارا، في حين أن الحد الأدنى للأجور -بعد الزيادة الأخيرة في ديسمبر/كانون الأول الماضي- توقف عند عتبة 92 ألف ليرة سورية (17 دولارا).

وشهدت الشهور القليلة الماضية ازديادا كبيرا في أعداد الموظفين الراغبين في الاستقالة، تزامنا مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، وبلوغ التضخم معدلات غير مسبوقة تخطى معها سعر صرف الدولار حاجز 5 آلاف ليرة للمرة الأولى في أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

عندما تتحول الوظيفة إلى عبء

وكشف اتحاد العمال العام لشؤون الموظفين في سوريا، سبتمبر/أيلول الماضي، عن ارتفاع أعداد المستقيلين ومقدمي طلبات الاستقالة من القطاع العام خلال النصف الأول من العام الجاري، مسجلا استقالة 400 موظف في محافظة السويداء، و300 آخرين في محافظة القنيطرة أغلبهم من قطاع التربية.

في حين تم تقديم 516 طلب استقالة في محافظة اللاذقية، بينها 230 طلبا من عمال في شركات الغزل، و149 من عمال في مؤسسة التبغ، و58 من عمال في قطاع الزراعة، و31 من عاملين في مديرية الصحة، و48 طلبا من موظفين في مختلف القطاعات الأخرى.

ويقول موفق (43 عاما)، وهو موظف في القطاع العام بدمشق، للجزيرة نت "أنفق شهريا من 50 إلى 100 ألف ليرة (10-20 دولارا)، حتى أستمر في الدوام؛ إذ إن الـ140 ألفا (28 دولارا) التي أقبضها راتبا شهريا أضع فوقها 20 ألفا أخرى لأدفع أجرة المواصلات، فضلا عن مصاريف المأكل والمشرب التي أضطر لها في بعض الأحيان في أثناء الدوام".

وكلما قدم موفق استقالته تعود إليه مع الرفض، ويؤكد أنه لولا دعم أقاربه له من هولندا وألمانيا، وإرسالهم مبالغ مالية شهريا "لقتلنا الجوع".

ويبلغ متوسط رواتب موظفي القطاع العام في مناطق سيطرة النظام 130 ألف ليرة، بعد الزيادة التي نص عليها المرسوم التشريعي رقم 19 الصادر في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

رواتب "هزلية بالكاد تكفي 3 أو 4 أيام، وبعدها يوكّل الموظف شأنه وشأن عائلته لله"، على حد قول موفق.

تأمين مستلزمات الحياة اليومية للسوريين أصبح يكلفهم أكثر مما يتقاضونه أجورا شهرية (الجزيرة)

وتشير سمر (35 عاما)، وهي محامية وخبيرة قانونية من دمشق، في حديث للجزيرة إلى أن عقوبة من يتغيّب عن الوظيفة العامة لمدة 15 يوما من دون إذن إجازة أو تقرير طبي هي الحبس من 3 إلى 5 سنوات، وغرامة مالية تضاهي مرتب الموظف وتعويضاته في سنة خدمة وفقا للمادة 364 من قانون العقوبات السوري.

وحسب المحامية سمر، فإن ظاهرة ازدياد طلبات الاستقالة من حكومة النظام قديمة، وترافقت مع هجرة عشرات الآلاف من الموظفين قبل 5 و6 أعوام، وإن الإجراءات المتبعة لدراسة هذه الطلبات بطيئة جدا وتحتاج إلى كثير من التبريرات من الموظف والموافقات من الجهات الحكومية، وأهمها الموافقة الأمنية.

وتأتي هذه الزيادة في طلبات الاستقالة تزامنا مع سبل هجرة جديدة ينشدها السوريون رغبة في الخلاص من أسوأ واقع معيشي وخدمي تشهده البلاد منذ اندلاع الحرب قبل 11 عاما، متمثلا في غلاء المحروقات وشحها، وارتفاع متسارع في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، وأزمة مواصلات خانقة، وانقطاع للكهرباء يصل إلى 16 و18 ساعة يوميا في بعض المناطق.

في حين تشير إحصاءات أحدث تقارير برنامج الغذاء العالمي التابع لمنظمة الأمم المتحدة إلى أن 80% من السوريين باتوا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في حين تخطت نسبة الفقر 90%.

شام مصطفى_سوريا_دمشق_صورة تبين العاملين في القاطع الصحي في مديري الصحة في طرطوس_فيسبوك
نزيف القطاع الصحي لم يقتصر على الأطباء بل طال الممرضين والعاملين في المشافي الحكومية (مواقع التواصل)

نزيف القطاع الصحي

ويبدو القطاع الصحي في مناطق سيطرة النظام أكثر القطاعات تضررا، بسبب موجة الاستقالات والهجرة التي تشهدها البلاد مؤخرا.

وقدرت رئيسة رابطة التخدير وتدبير الألم في نقابة الأطباء، زبيدة شموط، في تصريح لصحيفة الوطن (شبه الرسمية) مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، أن خسارة الكادر الطبي السوري تخطت 60% من أطبائه، وأن نقص الأطباء أصبح واضحا في المشافي، في حين أن عددا كبيرا منهم وصل إلى سن التقاعد، داعية المعنيين إلى البحث عن حلول جذرية، للحفاظ على الكادر الطبي في سوريا.

ولم يقتصر نزيف القطاع الصحي على الأطباء، بل طال الممرضين والعاملين في المشافي الحكومية، وتقدم 31 عاملا وممرضا خلال أكتوبر/تشرين الأول الجاري بطلبات استقالة في محافظة اللاذقية وحدها.

ونقلت صحيفة الوطن عن أحد الممرضين تحذيره من ظاهرة هجرة وسفر العاملين بمهنة التمريض نحو العراق وليبيا واليمن، في سبيل البحث عن أجور أعلى تناسب عملهم المجهد وخبرتهم، وأنه في حال استمرار الواقع المهني على ما هو عليه ستكون الاستقالة أو ترك العمل والهجرة خيارات مطروحة لمواجهة ظروف الحياة المعيشية القاهرة.

ومن جهته، قال نقيب الأطباء غسان فندي، عبر أثير إذاعة "المدينة إف إم" المحلية مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إن عمل الأطباء في المشافي الحكومية لا يمنحهم راتبا فحسب، بل خبرة في مهنتهم، موجها رسالة للأطباء الراغبين في الهجرة مفادها أن "الوطن ليس فندقا أبقى فيه حين تعجبني خدماته، وأغادره حين تقل".

في حين يشير الطبيب السوري جان مدوّر، اختصاصي طب الأسرة في مقاطعة بافاريا في ألمانيا، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن الـ35 ألف ليرة (70 دولارا حسب سعر صرف سابق) التي كان يتقاضاها شهريا لقاء مناوبته في مستشفى الأسد الجامعي كطبيب عام متدرب عام 2016، لم تكن تكفيه أكثر من أسبوع، وأنه كان يمضي ما تبقى من الشهر على حسابه الشخصي.

ويضيف "أعمل اليوم طبيبا مع شركة ألمانية ضمن برنامج التطعيم ضد كوفيد-19، وأتقاضى 130 يورو في الساعة الواحدة، أي أنني أتقاضى لقاء ساعة عمل واحدة ضعف مرتبي الشهري الذي كنت أتقاضاه في سوريا".

ولعل هذه الفجوة الضخمة، بين أجور الأطباء في سوريا وأجورهم في الخارج، هي التي دفعت آلاف الأطباء السوريين للهجرة إلى ألمانيا بقصد العمل، وبلغ عددهم 5200 طبيب في المستشفيات الألمانية، وفق إحصائية الرعاية الألمانية لعام 2021.

وتأتي دول الخليج ثاني وجهة مفضلة للأطباء السوريين بعد ألمانيا، وتليها كل من ليبيا والعراق والصومال التي تستقطب الأطباء برواتب تعتبر جيدة مقارنة بتلك التي يتقاضونها في مختلف أنحاء سوريا.

المصدر : الجزيرة