الحركي بين كرم ماكرون "الانتخابي" وتخوين الجزائر

تعود مبادرة ماكرون "لتعويض الحركيين" ومشروع القانون الذي تبعها إلى تقرير قدّمه المؤرخ بنيامين ستورا للرئيس الفرنسي عن "الاستعمار والحرب الجزائرية"، اقترح فيه النظر مع السلطات الجزائرية في إمكانية تسهيل تنقل الحركيين وأبنائهم بين فرنسا والجزائر.

ماكرون يتوسط الجنرال فرانسوا ماير (يمين) وصلاح عبد الكريم بعد تكريمهما خلال حفل بقصر الإليزيه تخليدا لذكرى الحركيين الجزائريين الذين ساعدوا الجيش الفرنسي في حرب الاستقلال الجزائرية (رويترز)

باريس – بعد 60 عاما من انتهاء حرب التحرير الجزائرية، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن قانون "تعويض" للحركيين الجزائريين -الذين تعاونوا مع فرنسا ضد بلدهم أثناء الاستعمار- وطلب "العفو" منهم، في لقاء تاريخي بقصر الإليزيه يوم 20 سبتمبر/أيلول 2021.

مصطلح "الحركيون" يعني العملاء أو الخونة، ويطلق على الجزائريين الذين حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي ضد ثورة التحرير في بلادهم من 1954 إلى 1962، وكترجمة تشريعية لخطاب ماكرون وافق البرلمان الفرنسي على مشروع قانون، الخميس الماضي، يشمل خطوات رمزية وعملية للاعتراف بـ"خدمات" الحركيين، ويذكّر بتجنيد نحو 200 ألف منهم مساعدين للجيش الفرنسي خلال الحرب.

البرلمان الفرنسي صادق الخميس الماضي على مشروع قانون لتعويض الحركيين (رويترز)

البعد التذكاري والتعويض

يطالب القانون، الذي تم التصويت عليه في الجلسة الأولى بالمجلس الوطني، بأغلبية 46 صوتا (1 ضد وامتناع 6 أعضاء)، بـ"العفو والسعي لإصلاح الإجحاف الذي عانى منه الحركيون وعائلاتهم".

ويجمع هذا القانون بين البعد التذكاري والتعويض، ويقرّ بأن نحو 90 ألفا من الحركيين عاشوا في ظروف غير لائقة بعد فرارهم من الجزائر عقب استقلالها إذ تم ترحيل نصفهم تقريبا إلى معسكرات وقرى صغيرة.

وشارك في جلسة البرلمان نواب مثل ديفيد حبيب وألكسيس كوربير اللذين تضم دائرتهما الانتخابية العديد من أحفاد الحركيين.

وقال كوربير مستهدفا ضمنيا المناضل اليميني المتطرف إريك زمور "انتهت الحرب، وويل لأولئك الذين يعيدون تنشيط الصراع إلى ما لا نهاية".

وفي السياق ذاته، لعب اليمين البرلماني دورا رئيسا في إعادة اشتعال حرائق الذاكرة الملتهبة والمتعلقة بالاستعمار الفرنسي، بتمرير قانون 23 فبراير/شباط 2005 الذي يضفي الطابع الرسمي على "رؤية اعتذارية لهذا التاريخ".

ويعترف هذا القانون بالمعاناة والتضحيات التي تعرض لها العائدون والأعضاء السابقون في التشكيلات التي تعاونت مع السلطات الفرنسية في الجزائر والمغرب وتونس وبقية المناطق التي كانت تخضع لها.

320 مليون يورو

ينص مشروع القانون الذي طرحه البرلمان على الاعتراف والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالحركيين وعائلاتهم من خلال الحصول على مبلغ مقطوع، مع مراعاة طول مدة الإقامة في أماكن الترحيل.

وبناء عليه، حُددت التكلفة القصوى لهذا الحق في التعويض بـ302 مليون يورو لعدة سنوات، بما في ذلك إضافة 50 مليون يورو في مشروع موازنة 2022 لتكملة صندوق التعويضات وتمويل بدء تنفيذ مشروع القانون الذي سيشمل 6 آلاف حالة.

وتشير الوزيرة المنتدبة لدى وزارة القوات المسلحة والمكلفة بالذاكرة والمحاربين القدامى، جونيفيير داريوسيك، في مقابلة مع الجزيرة نت، إلى أن "50 ألفا من الحركيين أُرسلوا إلى 69 قرية و6 مخيمات ومراكز أخرى تعكس حرمانهم من الحرية، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع مبادئ الجمهورية، ولدينا أرشيفات تثبت ذلك".

وأضافت داريوسيك "صحيح أن هذا المشروع خطوة جيدة لمصلحة الحركيين، إلا أن التحدي يكمن في الوصول إلى نقطة التقاء الحقيقة مع الشرف، لطيّ إحدى أكثر صفحات التاريخ كآبة".

epa03775616 French historian Benjamin Stora (R) is seen as he accompanies French President Francois Hollande (not seen) on his visit in Tunis, Tunisia, 04 July 2013. Hollande arrived on a two-day official visit. EPA/MOHAMED MESSARA
المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا  دعا إلى تسهيل تنقل الحركيين بين فرنسا والجزائر (الأوروبية)

إنصاف أم استفزاز؟

ورغم أن تطبيق خطاب الرئيس ماكرون على أرض الواقع يحمل بعض الإنصاف لهذه الفئة، فإنه يعيد الأزمة الجزائرية الفرنسية إلى الواجهة.

ولفهم ما حدث في البرلمان، يجب العودة إلى 20 يناير/كانون الثاني الماضي، حين قدّم المؤرخ بنيامين ستورا إلى ماكرون تقريره عن "الاستعمار والحرب الجزائرية"، واقترح النظر مع السلطات الجزائرية في إمكانية تسهيل تنقل الحركيين وأبنائهم بين فرنسا والجزائر.

وعلى الرغم من التحفظات التي رافقت تقرير ستورا بسبب عدم إدراجه عبارة "جريمة حرب"، على سبيل المثال، أو استخدامه عبارة "جريمة ضد الإنسانية" مرة واحدة فقط، فإن التقرير يمثل بداية لسلسلة الإجراءات التي قامت بها إدارة ماكرون.

وفي مقابلة للجزيرة نت مع المؤرخ والأكاديمي أوليفييه لاكور غراندميزون، يقول "إذا كانت السلطات الجزائرية تعدّ الحركيين خونة، فهذا رأي شرعي نسبيا، لكن هذا لا يغير حقيقة أن فرنسا عليها الاعتراف بمساعدة الحركيين للجيش الفرنسي في الجزائر، أو تعقبهم لأعضاء جبهة التحرير الوطني (FLN) على الأراضي الفرنسية".

ويضيف غراندميزون أنه إذا رغب ماكرون في تهدئة الأزمة الدبلوماسية، فعليه الاعتراف بجرائم الحرب في مناطق سطيف والمسيلة وخراطة الجزائرية في مايو/أيار 1945، فضلا عن مجزرة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 في باريس.

وهو ما أكده المؤرخ الفرنسي ترامور كيمينور قائلا إنه "لا ينبغي تفضيل ذكرى عن أخرى لأن هناك كثيرا من الذكريات المؤلمة في قصة الحرب الجزائرية، وجروحا لم تلتئم بعد".

وتابع كيمينور أن الحكومة الجزائرية قد تقوم بردود فعل سياسية إلا أن الشعب الجزائري ربما يعدّ هذا القانون شأنا فرنسيا فقط.

معاناة مستمرة

ولطالما تعامل الرأي العام في فرنسا مع "ورثة الهجرة الاستعمارية وفئة ما بعد الاستعمار وأحياء الطبقة العاملة" بنوع من الازدراء وغياب المساواة في الحقوق المدنية والقانونية وغيرها.

وفي عام 1983 خرج مواطنون من أصل جزائري وآخرون من الحركيين للتظاهر، جنبا إلى جنب في مسيرة للتنديد بالعنصرية والتمييز.

وقالت رئيسة جمعية "شباب الحركيين" في فرنسا، فاطمة روبيو مقراني، للجزيرة نت، إن الحركيين لم يكونوا "محميين" بموجب القانون، وإن السلطات تعلن في تصريحات عدة أنها قدمت مساعدات مالية وامتيازات في العمل والتعليم إلا أنها لم تطبق شيئا من ذلك.

وتضيف مقراني "يشكل مشروع القانون خيبة أمل كبيرة، لا يمكنها مسح الإجحاف الذي نتعرض له. لقد تخلّت عنا فرنسا ونشعر بأننا لا ننتمي إليها ولا إلى الجزائر. نحن -أحفاد الحركيين- نوجد حرفيا بينهما، في البحر. يعدّنا الجزائريون خونة ويشتمنا الفرنسيون بالعرب القذرين، ونتحمل تاريخ ومآسي البلدين يوميا".

مشاركة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في إحياء ذكرى مجزرة 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961 (مواقع التواصل)

كرم انتخابي

بدورها، رحبت المعارضة بخطوة مشروع القانون لكنها انتقدت توقيته، واتهمت ماكرون بمنح الحركيين العديد من المزايا في سياق حملة انتخابية مبكرة.

ويقول أوليفييه لاكور إن مبادرات رئيس الجمهورية ليست مستقلة عن الحملة الانتخابية، وهي اعتبارات سياسية لم تُقدم لمجزرة 1961 مثلا، وهو ما يكشف عن ازدواجية بين الاعتبار الحقيقي للأحداث التاريخية والاعتراف بالوقائع والجرائم.

وفعلا، كلما اقتربت الانتخابات زادت الانتقادات بين المرشحين، خاصة أن اليمين المتطرف لديه حساسية تجاه كل ما يتعلق بملف الهجرة أو المهاجرين.

وتشير زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف مارين لوبان إلى "كرم ماكرون الانتخابي"، على الرغم من أنها لم تتخلف عن تقديم الامتنان والتحية للحركيين في كل المناسبات. والمفارقة أن نجمها صعد في الوسط السياسي بسبب تصريحاتها المعادية للمهاجرين.

فقد أعلنت الأسبوع الماضي أنها لن تمنح الجزائريين تأشيرات دخول في حال فوزها بالرئاسة إذا لم تقبل الجزائر استعادة مواطنيها "غير المرغوب بهم" في فرنسا.

كما انتقدت الاتفاق الذي توصلت إليه دول الاتحاد الأوروبي بشأن ملف اللجوء والهجرة، ورأت أنه سيؤدي إلى "غمر أوروبا بالمهاجرين".

ومن جهتها، تقول مقراني إن الحركيين واعون لمحاولة ماكرون كسب أصواتهم من خلال تشريع قوانين ومساعدات مالية، إلا أنها تؤكد أن هذه المغازلة السياسية لن تؤثر على اختيارهم أثناء الانتخابات المقبلة.

المصدر : الجزيرة