هل فقدت الأحزاب الشيعية النافذة سطوتها وهيمنتها بجنوب العراق؟

المحتجون أحرقوا العديد من مقرات الأحزاب جنوب العراق

علاء كولي – ذي قار

ساهمت الوعود السياسية والانتخابية الفارغة التي تُطلقها الأحزاب الشيعية النافذة في كل موسم انتخابي، وارتفاع معدلات البطالة وانتشار الفساد على نحو واسع، في غليان الشارع في جنوب العراق ورفض فكرة وجودها على أرض الواقع، لينتهي بها المطاف في حرائق كبيرة، بدأت في عام 2018 ولا تزال مشتعلة حتى الآن.

ولطالما كانت مشاعر الخيبة والخذلان، تخيّم على سكان تلك المدن الغزيرة بالنفط، بعد أن ازداد نفوذ الأحزاب بشكل جنوني، لتتراجع الحياة ومشاريع الإعمار، مع انتشار الأمراض وغياب للواقع الصحي والأمني، وتبخر أحلام الناس في الوعود الحكومية الطويلة.

لكن هذه الخيبة، تحولت في أكتوبر/تشرين الأول 2019، إلى شرارة غضب اشتعلت في تلك المدن، حينما اجتاحت الاحتجاجات كل المناطق، منددة بما يحصل للمواطنين من فقدان للحقوق والشعور بالأمان، لترافقها أعمال عنف أدت لسقوط مئات القتلى والجرحى.
لحظة حرق مقر حزبي في الناصرية من قبل محتجين (الجزيرة)الاحتجاجات نجحت في هتك "القداسة" التي كانت تحتمي بها الأحزاب النافذة جنوب البلاد (الجزيرة)

هتك القداسة
لم تنبثق الأحزاب الإسلامية الشيعية من واقع الحال في الجنوب، ولم تعبّر عن تطلعات الناس ومزاجهم، بل هي جزء من واقع الحال في المعادلة التي فرضتها الولايات المتحدة بعد الغزو عام 2003، كما يقول الكاتب والمهتم بالحركات الدينية، علاء هاشم الموسوي للجزيرة نت.

الأحزاب الكردية والسنية أيضا نتاج المعادلة الأميركية، كما يوضح الموسوي، وهي تتحمل أيضا مسؤولية فشل بناء الدولة طيلة 17 عاما، ولكن موقف الأحزاب الشيعية من القضايا العامة في العراق والمنطقة، والمتناغم مع السياسة الإيرانية هو الذي جعلها تدفع ثمن الفشل وحدها، تحت ضغط الأجندات الأميركية.

ويضيف الموسوي أن الأحزاب السياسية الشيعية لم تستثمر وجودها في السلطة لتقدم شيئا لأبناء الجنوب، الذين تعتقد هذه الأحزاب أنهم يمثلون العمق الإستراتيجي الشعبي لها، والنتيجة فإن الحجم الحقيقي لهذه الأحزاب ظهر في الاحتجاجات الأخيرة، التي نجحت إلى حد كبير في هتك "القداسة" التي كانت تحتمي بها هذه الأحزاب.

كنا طوال سنوات، منذ لحظة انضمامي لأحد الأحزاب الإسلامية، نعمل على محاولة شيطنة الآخر، ليس المختلف معنا مذهبيا فحسب، بل كل من يحاول أن يسيء للحزب أو يحاول الإساءة لرموزه، فكل حزب كما يعرف الجميع، يمتلك شخصيات دينية مؤثرة يرتكز عليها بخطابه، كما يقول رجل الدين الشيخ علي التميمي للجزيرة نت.

ويضيف التميمي أنه لم يستطع الاستمرار مع هذه الأحزاب بسبب مشاكل كبيرة رآها، فقرر أن يكون له موقف معارض، مشيرا إلى أن هذه الأحزاب مارست أساليب كثيرة لكل من يتجرأ عليها، ولا سيما المعارضين في المدن الجنوبية، بما فيها الأفكار والانتقادات.

الشبيب رأى أن الاحتجاجات اندلعت لإزالة الطبقة السياسية المهيمنة على الحكم في العراق (الجزيرة)

التغيير الفوقي
ويرى الأكاديمي والمختص بعلم الاجتماع د.عدي الشبيب أن التغيير في السلطة كان من البناءات الفوقية بعد عام 2003، بمعنى أن التغيير جاء خارجيا، ولم ينبثق من الواقع، وهو ما جعل السلطة بالأساس منفصلة عن الداخل، ووفق نظرة علم الاجتماع، فإن التغييرات -حتى تكون حقيقية- يجب أن تكون وفق تحولات جاءت من مستويات داخلية وضمن ديناميكية المجتمع.

ويضيف الشبيب للجزيرة نت أن هذه الأحزاب التي وصلت للسلطة لم تجر حتى الآن، أي تغييرات تتعلق بالهيكل الإداري أو القانوني وحتى ما يتعلق بمسارات التربية والتعليم، في حين أن البلد شبه متآكل، وهذا التآكل توسع على الزراعة والصناعة والإنتاج النفطي.

وأصبحت الأموال، كما يوضح الشبيب، مركزة بيد فئة قليلة تابعة للأحزاب والمليشيات وتابعة لشخصيات لديها ولاءات خارجية مما ولد هذا الغضب، وبالتالي ظهرت حركة الاحتجاج لإزالة الطبقة السياسية الموجودة، والحديث هنا يشمل السنة والشيعة والأكراد، وكل أطياف التنوع المذهبي والعرقي.
حازم هاشم اعتبر أن خذلان مطالب الناس والبطالة أججا الغضب ضد الأحزاب الشيعية (الجزيرة)

عقلية المعارضة
مثلت معادلة الحكم في العراق منذ عام 1921 إلى عام 2003، شكلا من أشكال المهمش التاريخي والسياسي والثقافي، وهذا شكل قناعة لدى سكان الجنوب والمناطق الكردية، أنهم دائما أكثرية سكانية تحكمها أقلية فُرزت مذهبيا ومناطقيا، وعلى هذا الأساس كان الوعي قد تشكل على رفض السلطة ومعارضتها، كما يقول الأكاديمي د.حازم هاشم.

ويضيف هاشم للجزيرة نت أن تفجير الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 كان له أثر كبير في إعادة صياغة الهوية الشيعية في الجنوب وتشكيلها، هذه الهوية كانت موجودة ولكنها دون ملامح سياسية وكانت دينية فقط، لكنها لاحقا توفرت لديها خواص متكاملة مثلتها إيران.

ويتابع "سياسة الأحزاب التي جاءت بعد 2003 كانت قد ربطت مشروعها بالممارسة الدينية والزيارات والمسير للأضرحة الدينية، وحاولت استعارة خطاب لم ينسجم مع مشروع بلد متعدد الطوائف والقوميات، كما أن شكل النظام أقرب للمدنية لكن واقعا تهيمن عليه أحزاب ذات بنية دكتاتورية فردية تسعى لإدامة الملف الطائفي لتبقى حاضرة".

خذلان الناس بحروب وتضحيات ودماء، كما يحللها هاشم، وغياب فرص العمل والبطالة وتواطئ رجال دين، ساهمت بتأجيج الغضب ضد الأحزاب الشيعية النافذة، مع وجود مادة للمعارضة في تلك المدن ولديها تجربة طويلة مع نظام الرئيس الراحل صدام حسين والعهد الملكي والدولة العثمانية دفعها للانتفاضة ضد هذه الأحزاب.

صناعة قائد
ويقول هاشم إن هذه الأحزاب لم تستطع أن تخلق قائدا بمواصفات الكاريزما الموجودة مثلا عند حسن نصرالله أو الموجودة عند الخميني أو التي لدى قيادات شيعية تاريخية، بل أنتجت شخصيات ليست لديها قوة الحضور أو الخطاب ولا تستطيع أن تتعامل مع الكاميرا بشكل جيد، وليست محرضة أو مهيجة للجماهير ولا تحمل أنموذجا في الشهادة والتضحية.

والذي حدث، كما يؤكد هاشم، أن الموضوع بدأ بالثورة التكنولوجية، ثم تحول إلى تسقيط الرمزية والقدسية الدينية لدى الأحزاب وتسقيط قدسية تاريخها، ساعد ذلك تصرفات الأحزاب بعد أن تحولت إلى مليشيات عسكرية دون توعية أو مشروع فكري، مع غياب المنهاج السياسي والاقتصادي ووقوعها بتناقضات حادة مع نّمو جيل عدمي لا يؤمن بالدولة القومية أو الدينية بل يؤمن بدولة الإنسان.

كل تلك الأسباب التاريخية والنفسية والاجتماعية والثقافية، كان لها الأثر الواضح والكبير في ردة الفعل العنيف التي واجهته الأحزاب الإسلامية، نهاية عام 2019، وهي بمثابة صدمة تاريخية لها، بعد المواجهة الكبيرة بالرفض المطلق والقطيعة التي أعلنها الشباب، والتي عبروا فيها عن ذلك بحرق مقرات هذه الأحزاب بالكامل، كما يقول هاشم.
شباب غاضبون، وهم يستعدون لحرق مبنى أحد الاحزاب بذي قار (الجزيرة)محتجون عراقيون يستعدون لحرق أحد المقرات الحزبية في محافظة ذي قار جنوب العراق (الجزيرة)

استحقاق تاريخي
وفي المقابل، يرى أحمد عبود المياحي وهو من الكوادر الشبابية في المجلس الأعلى الإسلامي العراقي بزعامة همام حمودي، أن التاريخ الطويل للأحزاب الإسلامية ونضالها ضد نظام صدام، لا يمكن التغافل عنه، وهو استحقاق تاريخي في التصدي للحكم، فوالدي مع عشرات الشباب انضم للحزب بداية السبعينيات، حينما كانت السلطة في أوج قوتها وهرب خارج البلاد بعد ذلك.

ويضيف المياحي للجزيرة نت أن ما قدمته الأحزاب الشيعية الإسلامية وحزب الدعوة بشكل خاص، طوال عقود، وتضحيتها بالمئات من كوادرها الذين تم تعذيبهم وإعدامهم، لم تقدمه الأحزاب التي خرجت بعد 2003، لكن الذي حصل أن المحاصصة فرضت نفسها على الواقع السياسي، والأحزاب الإسلامية لا تتحمل الفشل وحدها لتلقى أعباء الخراب عليها فقط.

هناك مؤامرة قادتها دول إقليمية لتسقيط التجربة العراقية في الحكم، وما انتشار الفساد إلا دليل واضح على ذلك، التمسك بالسلطة كان ولا يزال من المواضيع الشائكة التي تصدت له الأحزاب الإسلامية، ومحاولة التسقيط لم يكن للأحزاب فقط، وإنما القيم الدينية التي تؤمن بها غالبية الناس، كما يقول أبو علي الركابي، وهو قيادي سابق في حزب الدعوة للجزيرة نت.

المصدر : الجزيرة