العمارة النسوية تحف فنية تزين القدس

تكية خاصكي سلطان كانت تقدم الطعام وقت تأسيسها لألفي شخص تحولت حاليا لمدرسة دار الأيتام الإسلامية ومكتب مديرية التربية والتعليم الفلسطينية في القدس
تكية خاصكي سلطان شيدت بأمر من زوجة سليمان القانوني في البلدة القديمة من القدس (الجزيرة نت)
أسيل جندي-القدس

حظيت النساء بشأن كبير في مدينة القدس عبر العصور، وكان لبعضهن نفوذ واسع تُرجم من خلال إنشاء مبان ضخمة بأمر مباشر منهن، لتُكوّن مجتمعة ما يطلق عليه مسار العمارة النسوية في القدس القديمة.

يبدأ المسار في طريق الواد بالقدس، إذ يجد الزائر على يساره الكنيسة البولونية التي كانت في السابق حمّاما عاما أمرت ببنائه زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني، وهي روسية الأصل تدعى روكسيلانا.

وكان هذا البناء من روافد المشروع الخيري الضخم: تكية "خاصكي سلطان"، وتعني "معشوقة السلطان" لكثرة تعلق السلطان بها. وكانت أرباح هذا الحمّام بالإضافة إلى عدد من المرافق الأخرى تُنفق على التكية، قبل أن يُهمل في الفترة العثمانية المتأخرة.

تكية حية
وفي أواخر القرن الثامن عشر لم يعد يستخدم البناء حمّاما، حيث سيطرت عليه بطريركية الأرمن الكاثوليك عام 1907، وانتهى الأمر ببناء كنيسة على النمط الأرمني في مركز المكان، لتكون أساس المرحلتين الثالثة والرابعة من مراحل درب آلام السيد المسيح عيسى عليه السلام، وفق الاعتقاد المسيحي.

المدرسة العثمانية بنيت على يد الأميرة آغل خاتون بنت عثمان في القرن الرابع عشر الميلادي (الجزيرة نت)
المدرسة العثمانية بنيت على يد الأميرة آغل خاتون بنت عثمان في القرن الرابع عشر الميلادي (الجزيرة نت)

وعلى بعد أمتار من باب المجلس، أحد أبواب المسجد الأقصى، شيدت تكية خاصكي سلطان بأمر من زوجة السلطان سليمان القانوني قرابة 1552 ميلادية، التي وصفت بأنها غيرت ملامح تاريخ الإمبراطورية العثمانية، حيث سيطرت على الدولة بأكملها وكان أمرها لا يرد.

كانت التكية تُطعم في عهدها قرابة ألفي شخص، ولم تقتصر على المطبخ بل احتوت على سبيل ومسجد وبيوت كان يسكنها زائرو القدس، بالإضافة إلى غرف سكن للعلماء والدراويش آنذاك.

وما تزال التكية تفتح أبوابها حتى يومنا هذا، وتشرف عليها دائرة الأوقاف الإسلامية التي تقدم الطعام يوميا لنحو خمسمئة شخص، يرتفع عددهم خلال شهر رمضان لأكثر من ألف شخص، أما بقية مرافق التكية فتحولت حاليا إلى مدرسة دار الأيتام الإسلامية.

ويقع على امتداد التكية قصر الست طنشق، ويقال إنها أميرة واسعة الثراء من كزاخستان قررت الانفصال عن أهلها، فتعبدت في القدس وتصوفت، وأمرت ببناء هذا المبنى المملوكي الضخم الذي يشرف على المسجد الأقصى ويطل مباشرة على قبة الصخرة المشرفة.

وتعتبر واجهة القصر من أجمل وأضخم واجهات مباني القدس، وفُتح فيها ثلاثة مداخل استخدمت فيها الزخارف المملوكية المختلفة بالإضافة إلى النقوش والرقوش. ويتألف القصر من طابقين، وتم ضمه في العهد العثماني إلى تكية خاصكي سلطان، وتحول الآن إلى مدرسة دار الأيتام الصناعية، بينما دفنت الست طنشق في قبر مقابل قصرها على بعد أمتار من المسجد الأقصى.

ومن الأبنية التي أمرت ببنائها امرأة أيضا، المدرسة العثمانية التي تقع على يسار الداخل للمسجد الأقصى من باب سقاية العادل، وأنشئت على يد الأميرة آغل بنت عثمان، وبنيت في الفترة المملوكية عام 1437. ويتكون البناء من مدخل منمق مزخرف كتب عليه الآمر بالبناء، ويقع قبر الأميرة داخل المدرسة التي تسكنها حاليا عائلة الفتياني المقدسية.

وبالقرب من باب السلسلة -أحد أبواب المسجد الأقصى- يقع رباط النساء الذي يروى أنه أنشئ على يد أميرة تدعى تركان خاتنون من أوزبكستان، وكان مخصصا لرباط النساء الزائرات للأقصى وسكنهن، وتسكنه حاليا عائلة التوتنجي.

قصر الست طنشق، وهي أميرة واسعة الثراء من كزاخستان قيل إنها قررت التعبد في القدس (الجزيرة نت)
قصر الست طنشق، وهي أميرة واسعة الثراء من كزاخستان قيل إنها قررت التعبد في القدس (الجزيرة نت)

وفي نهاية مسار العمارة النسوية في القدس، تقع مقبرة مكونة من غرفتين مقببتين في طريق باب السلسلة، أمرت بإنشائهما تركان خاتون، وبنت هذه المقبرة بعد وصولها للقدس بثلاث سنوات وأوصت أن تدفن فيها، وتحولت إحدى الغرفتين إلى منزل، بينما احتضنت الأخرى قبر الأميرة خاتون.

ضخامة ودقة

وحديثا تعتبر مؤسسة دار الطفل العربي أحدث المؤسسات النسائية التي أوجدت خارج سور القدس، رغم كل الظروف الصعبة في المدينة.

وتم تأسيس الدار بعد نكبة عام 1948 التي خلفت الكثير من الأيتام، وتبرعت حينها السيدة المقدسية هند الحسيني بتوفير مأوى دائم لهم، وتحول المبنى لاحقا إلى مدرسة دار الطفل العربي، وهي من أهم المدارس الرائدة في مجال التعليم بالقدس.

وتدلّ العمارة النسوية في القدس -بحسب الباحث في تاريخ القدس روبين أبو شمسية- على ازدهار واضح في المعمار المزخرف في الفترة المملوكية، حيث مُزج المعمار التركي السلجوقي والمعمار الشرق آسيوي المغربي والشمال أفريقي، ليشكلوا معا تحفا فنية متناسقة.

وأضاف أن العمارة النسوية العثمانية تميزت بضخامة البناء ودقة وضع الأحجار وترتيبها، وكانت أكثر تواضعا من ناحية الزخارف.

المصدر : الجزيرة