أبيي بين البروتوكول والخارطة

أبيي بين البروتوكول والخارطة



بدر حسن شافعي

ملابسات توقيع الخارطة
أبرز الإيجابيات
ملاحظات وأبرز التحديات

رب ضارة نافعة، فبالرغم من أن الجميع كان لا يتمنى أن تصل الأوضاع في أبيي إلى ما وصلت إليه في الأحداث الأخيرة التي شهدها شهر مايو/أيار الماضي، خاصة أعمال القتل والتشريد والحرق ليس بين شركاء المنطقة فحسب "المسيرية والدينكا نقوك" ولكن بين شركاء الحكم "الجيش السوداني وقوات الجبهة الشعبية"، فإن تسارع هذه الأحداث على هذه الوتيرة هو الذي دفع الطرفين إلى تفعيل بروتوكول أبيي الذي تم توقيعه في 24 مايو/أيار 2004 في نيفاشا بكينيا.

وكان يفترض أن يدخل حيز التنفيذ مثله مثل اتفاقيات سلام نيفاشا أوائل 2005، لكن النفط -ويبدو أنه في بعض الأحيان يكون نقمة وليس نعمة- فضلا عن السياسة التي أفسدت العلاقات الاجتماعية والروابط القبلية بين المسيرية والدينكا.

تلك الروابط التي كانت مضربا للمثل في التعايش السلمي، والاحتكام للعقلاء في حل أي خلاف قد ينشب بين الطرفين، نقول يبدو أن النفط والسياسة أفسدا -وما زالا- العلاقات على أرض الواقع، الأمر الذي جعل بعض المراقبين يتخوفون من عدم تحقق الاستقرار الفعلي على أرض الواقع بين الشعبين، حتى وإن فصل التحكيم في قضية الحدود.

ومن هنا فإن هذا الفريق يرى -ووجهة نظره صائبة إلى حد كبير– أن الأمور لن تحسم بالقانون فقط، لأن طرفي المشكلة يتجاوران مع بعضهما، ومن ثم كان ينبغي إعطاء جهود الوساطة، وتسوية الأمر في إطار القبيلة (على غرار ما كان يحدث في السابق) مزيدا من الوقت.

لكن يبدو أن الطرف الأخر صاحب فكرة التحكيم كان محقا أيضا في وجهة نظره، خاصة وأن استمرار العنف والقتل والتشريد معناه فشل جهود الوساطة، ومن ثم فلا بد من الاحتكام إلى طرف محايد، على ألا يعني ذلك عدم الاهتمام بإصلاح ذات البين، وما أفسده –ليس الدهر فحسب- وإنما البترول والسياسة أيضا.


ملابسات توقيع الخارطة

"
يبدو أن ظروفا وأسبابا معينة دفعت الطرف الحكومي تحديدا للتوصل لاتفاق أبيي، بل وتقديم بعض التنازلات التي لم تكن موجودة من قبل، وذلك بحسب المسيرية أصحاب القضية الرئيسية
"

ويبدو أن ظروفا وأسبابا معينة دفعت الطرف الحكومي تحديدا للتوصل لهذا الاتفاق، بل وتقديم بعض التنازلات التي لم تكن موجودة من قبل، وذلك بحسب المسيرية أصحاب القضية الرئيسية الذين اتهموا الحكومة بعدم أخذ رأيهم في التفاوض، أو حتى بحسب فريق آخر داخل المؤتمر نفسه.

هذه الأسباب يمكن إجمالها فيما يلي:
1-تأزم العلاقة مع الجبهة الشعبية بسبب اتفاقية نيفاشا عامة وموضوع أبيي خاصة، وإدراك الحكومة أن عدم تسوية أبيي قد تكون بمثابة مسمار في نعش اتفاقيات نيفاشا، خاصة بعدما أقدمت الحركة -في خطوة منفردة- على تعيين حاكم للمنطقة في الفترة الأخيرة.

2-الضغوط الأميركية في هذا الشأن، وقيام واشنطن بتعليق محادثاتها مع الخرطوم ووقف التطبيع بسبب قضية أبيي.

3- ضغوط وفد مجلس الأمن أثناء زيارته للخرطوم، بالرغم من أن هدف الزيارة الرئيس كان أزمة دارفور، والعلاقات السودانية التشادية.

4- محاولة تصحيح موقفها الذي وضعت فيه بسبب تقرير لجنة الخبراء حول أبيي، والذي لم يكن في صالحها، مما دفعها إلى رفضه، وبالتالي ظهورها أمام قطاع كبير من الرأي العام الداخلي، والخارجي بأنها الرافضة لتسوية الأزمة.


ايجابيات الاتفاق
هذه الملابسات السابقة انعكست بصورة أو أخرى على خارطة الطريق التي تم توقيعها في الثامن من يونيو/حزيران الماضي، تماما كما انعكست التطورات السلبية للأوضاع في الإقليم على صياغة هذه الخارطة أيضا، خاصة فيما يتعلق بوضع جداول زمنية محددة بدقة بشأن تنفيذها.

فضلا عن وضع بعض البدائل لبعض الآليات في حالة فشل تنفيذ هذه الآليات أيضا ومن ذلك النص على أنه في حالة فشل الطرفين في التوصل خلال شهر لاتفاق حول هيئة التحكيم أو مشارطة التحكيم أو مرجعيات التحكيم، أو قواعد تسييره، يقوم الأمين العام للمحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي بتسمية (خلال خمسة عشر يوما) هيئة تتولي التحكيم وتضع القواعد والمرجعيات الإجرائية وفقا لقواعد محكمة التحكيم الدولية، والأعراف الدولية المرعية.

ونفس الأمر الخاص بهذه التوقيتات المحددة نجده في نصوص كثيرة مثل انتشار القوات المشتركة في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من اعتماد رئاسة الجمهورية لمقررات الخارطة، وتشكيل إدارة منطقة أبيي خلال أسبوعين من تاريخ اعتماد هذه القرارات. وهي النقطة التي صارت معطلة طيلة أكثر من ثلاث سنوات، وتسببت في تدهور الأوضاع على النحو الذي رأيناه مؤخرا.

بل أكثر من ذلك، فقد نصت الخارطة على إنجاز عملية التحكيم بكاملها بما في ذلك إصدار القرار النهائي في مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ إنشاء هيئة التحكيم على أن تكون قابلة للتمديد لمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.

ومعنى ذلك أن أقصى مدة متاحة هي تسعة أشهر، يضاف إليها شهر، أو شهران هما الخاصان بتشكيل المحكمة سواء من قبل طرفي النزاع، أو محكمة العدل.

ومن هنا فإن المدة الإجمالية الافتراضية لا تزيد عن 11 شهرا، أي قرابة عام، في حين أن بروتوكول أبيي نص على أن لجنة حدود أبيي ينبغي أن تنهي عملها خلال السنتين الأوليين من الفترة الانتقالية.

لكن بالرغم من إيجابية وضع الجداول الزمنية المحددة من ناحية، والتي تمتاز بقصر مداها الزمني من ناحية أخرى، فإنه يخشي من أن تكون هذه العجلة على حساب الكفاءة والتعامل بموضوعية في الأزمة، خاصة فيما يتعلق بتشكيل المحكمة الفنية المتخصصة للفصل في قضية الحدود، إذ إن فترة شهر قد تدفع لاختيار أشخاص لا يتمتعون بكفاءات خاصة في القضية محل البحث، وبالتالي يتم الوقوع في نفس الخطأ الذي حدث في عملية تشكيل لجنة الخبراء. ويبدو أن الطرفين عملا على التخلص من هذا المأزق بالاتفاق مؤخرا على التحكيم مباشرة.

"
بالرغم من إيجابية وضع الجداول الزمنية المحددة لتنفيذ الاتفاق, فإنه يخشى من أن تكون هذه العجلة على حساب الكفاءة والتعامل بموضوعية في الأزمة، خاصة فيما يتعلق بتشكيل المحكمة الفنية المتخصصة للفصل في قضية الحدود
"

ولم تكن نقطة تحديد المواعيد الزمنية هي النقطة الإيجابية الوحيدة في الاتفاق، فقد تضمن أيضا بعض النقاط الإيجابية الأخرى التي ربما لم يتضمنها البروتوكول، أو تضمنها ولكن تمت إضافة تعديلات عليها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

1- النص على قيام رئيس المجلس التنفيذي للمنطقة والذي يتم تعيينه من قبل مؤسسة الرئاسة المركزية، بتقديم توصيات –بالتشاور مع نائبه- للرئاسة بشأن اختيار رؤساء المصالح الخمسة في المنطقة، حيث أن البروتوكول جعل هذا الحق مقصورا فقط على رئيس المجلس التنفيذي (2/4).

ويبدو أن السبب في هذا التعديل هو إحداث حالة من التوازن بين الرئيس ونائبه، خاصة بعدما تضمنت خارطة الطريق (الفقرة الرابعة في البند الثالث) النص على أن يكون رئيس المجلس من الحركة، ونائبه من حزب المؤتمر. وهو ما اعتبر أحد التنازلات التي قدمها المؤتمر للحركة.

2- النص على مساهمة حكومة الوحدة الوطنية وحكومة جنوب السودان بنسبة 50% و25% على التوالي من نصيبهما في عائدات نفط الحقول الكائنة بالمنطقة الخاضعة للتحكيم لصندوق تؤسسه الرئاسة لتنمية المناطق الكائنة على طول حدود الشمال والجنوب وتمويل المشاريع المشتركة المقدمة للاجتماع الثالث للمانحين في أوسلو بالنرويج في مايو/أيار 2008.

صحيح أن فكرة الصندوق ليست جديدة، حيث نص البروتوكول على إنشاء صندوق مماثل أطلق عليه "صندوق أبيي لإعادة التوطين"، لكنه لم يتضمن تفصيلا لموارده خاصة فيما يتعلق بنسب مساهمة كل من المؤتمر والحركة به.

3- التأكيد على أن مبدأ الحدود المؤقتة التي ستسري عليها سلطة إدارة المنطقة، وذلك لحين الفصل في التحكيم، ولقد سبق أن قام البروتوكول بتعريف إقليم أبيي بأنه منطقة نظارات الدينكا نقوك التاسعة المنقولة لكردفان عام 1905.


أبرز الملاحظات والتحديات
وبالرغم من الإيجابيات السابقة، فإن هناك بعض الملاحظات على الخارطة، فضلا عن بعض التحديات المرتبطة بالقضية ككل، لعل أبرزها ما يلي:

1- الغموض بشأن الموقف من تقرير لجنة الخبراء، فالخارطة تحدثت في ديباجة البند الرابع الخاص بترتيبات الحل النهائي على أنه "دون إخلال بموقف أي من الطرفين حول ما توصل إليه تقرير خبراء مفوضية أبيي، يتفق الطرفان على ما يلي: "يلجأ الطرفان لهيئة تحكيم مهنية متخصصة…"

"
بالرغم من إيجابيات خارطة الطريق في أبيي، فإن هناك بعض الملاحظات من بينها ماذا لو جاء الحكم في غير صالح المسيرية؟ هل سترفضه على اعتبار أنها لم تشارك بداية في المفاوضات التي أفضت لتوقيع الخارطة مقارنة بالدينكا التي شاركت فيها؟
"

ومن هنا فإن السؤال هو هل قرار لجنة الخبراء ملغى، وأن المحكمة ستحكم ابتداء في الموضوع أم إنها بمثابة جهة استئنافية للقرار. ولعل هذا يطرح تساؤلا أخر في غاية الأهمية ألا وهو ماذا يحدث لو حكمت المحكمة الخاصة بانضمام المنطقة للشمال؟ هل سترفض الحركة هذا القرار الملزم استنادا لهذه الفقرة؟

2- يرتبط بالنقطة السابقة تساؤل أخر هو ماذا لو جاء الحكم في غير صالح المسيرية؟ هل سترفضه على اعتبار أنها لم تشارك بداية في المفاوضات التي أفضت لتوقيع الخارطة مقارنة بالدينكا التي شاركت فيها من خلال وزير الخارجية دينق ألور، ووزير شؤون رئاسة حكومة الجنوب لوكا بيونق.

3- هناك مشكلات تتعلق بطبيعة التعايش بين القوات المشتركة خاصة في ظل اختلاف نظم التدريبات العسكرية، فضلا عن العادات والتقاليد، وإن كان هذا الأمر لا مفر منه، خاصة أن اتفاقيات نيفاشا تنص على وجود مجلس دفاع مشترك، وكذلك قوات مشتركة مناصفة في الجنوب (24 ألفا)، وجبال النوبة (6 آلاف)، والنيل الأزرق (6 آلاف)، والشمال (3 آلاف).

4-الخوف من مشكلة حيادية لجنة التحكيم خاصة بالنسبة للجانب الحكومي الذي يتهم دائما المجتمع الدولي بالتآمر عليه وبالرغم من أن اللجنة ستتشكل من خمسة قضاة يقوم كل جانب باختيار اثنين ويقوم الأربعة المختارون باختيار الخامس, فإن شبهة الحيادية لاتزال قائمة.

5- تجاهل الاتفاق الحديث عن إمكانية استئناف حكم لجنة التحكيم، وهل سيكون هذا الحكم نهائيا أم قابلا للاستئناف من جديد.

6- ضرورة إسراع مؤسسة الرئاسة في عملية إعادة الإعمار، وسرعة عودة اللاجئين، خاصة أنها المسؤولة –وفق البروتوكول والخارطة- على عملية الإدارة وكذلك على تصرفاتها لا سيما أن عملية إعادة الإعمار وتحسين أوضاع الإقليم قد تساهم في إيجاد حالة من التعايش السلمي، لأن القانون وحكم المحكمة شيء، والواقع الاجتماعي شيء آخر.
ـــــــــــ
كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.