قراءات خاطئة لما جرى في قطاع غزة

قراءات خاطئة لما جرى في قطاع غزة


التركيز على الصورة ونسيان الأصل
تجاهل مخطط الانقلاب الآخر
هجاء الشعب ونعي القضية
تعطيل الديمقراطية والإصلاح
الجزيرة ووسائل الإعلام
مجرد نموذج لبؤس المواقف

حظي الحسم العسكري الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية حماس في قطاع غزة بتركيز إعلامي استثنائي منذ وقوعه منتصف شهر حزيران/يونيو الماضي، وقد كان للنخب العلمانية المتطرفة، وبعض اليسارية دور بارز في قراءة الحدث والتعليق عليه من زوايا متعددة.

الآن وبعد مضي وقت لا بأس به على ما جرى يمكننا التوقف أمام جوانب من القراءات الخاطئة للحدث وتداعياته، التي يعكس بعضها مواقف مسبقة، ليس فقط من حركة المقاومة الإسلامية حماس وإنما من عموم تيارات ما يسمى الإسلام السياسي، وهو ما عبر عنه صراحة أحد صقور فتح في التعامل مع حماس (نبيل عمرو)، بل ربما تجاوز بعضهم ذلك كله ليصب في خانة الموقف من الإسلام كدين.

نشير هنا إلى أننا لا نتحدث عن الموقف السياسي العام من الحدث، كأن يراه بعضهم صائباً أو غير ذلك لأن موقفاً من هذا النوع لا غبار عليه، وكاتب هذه السطور وإن برر ما جرى من زاوية الحق، فإنه يراه غير ذلك من الناحية السياسية تبعاً لمعطيات محلية وعربية ودولية، وقد كان بالإمكان إقصاء الانقلابيين من جماعة دحلان أو دايتون من دون دفع الأمور إلى مآلها الحالي.

التركيز على الصورة ونسيان الأصل

"
المعركة لم تكن بين حماس وفتح، ولو كانت كذلك لاستمرت شهوراً طويلة، وإنما كانت حسب تعبير مصدر أمني مصري مقرب من الوفد الأمني العامل في قطاع غزة لصحيفة المصري المستقلة، بين 70% من الشعب الفلسطيني وبين فئة محدودة من حركة فتح
"

من القضايا التي واجهناها في قراءة النخب للحدث ما يتعلق بالتركيز على جملة من الصور الشاذة والمرفوضة وجعلها عنواناً أساسياً للمشهد وتداعياته.

ففي سياق الحسم العسكري من قبل شبان مقاتلين كانوا يراقبون الموقف قبل ذلك بعيون المحترق بنار الانفلات الأمني وملاحقة حكومة منتخبة، في هذا السياق وقعت مجموعة من الممارسات من قبل حفنة من الشبان رفضها قادة حماس واعتذروا عنها، كما هو حال عملية قتل أحد عناصر فتح (سميح المدهون)، أو العبث ببعض محتويات بيت الرئيس ووجود صورة له وللرئيس الراحل ياسر عرفات تحت الأقدام، أو إزالة العلم الفلسطيني عن بعض المباني ووضع علم حماس مكانه.

كل ذلك كان خاطئاً من دون شك بصرف النظر عن مقدماته، كما هو حال الموقف من سميح المدهون الذي ارتكب جرائم عديدة، لكن ما ينبغي قوله هنا هو أننا إزاء تجاوزات محدودة لا يمكن أن ترقى إلى مسلسل الجرائم التي مارسها الطرف الآخر "الانقلابي في فتح" خلال شهور طويلة وذهب ضحيتها العشرات من العلماء والخطباء والصحفيين، وتكرست من خلالها لعبة انفلات أمني بشعة لا يختلف على وجودها اثنان، فضلاً عن أن حماس هي الحكومة المطاردة بالانفلات الأمني والمسؤولة عنه في آن، ومن الطبيعي أن توقفه بالطريقة المناسبة.

وحين نسمع وزير داخلية سابق مثل نصر يوسف يتحدث أيام ولايته عن عصابات وتجار مخدرات وليس أجهزة أمنية فمعنى ذلك أننا إزاء واقع موجود قبل حكومة حماس، لكن ما أضيف إليه هو انفلات أمني مقصود هدفه مطاردة تجربة الحركة وجعلها عبئاً سياسياً عليها، إضافة إلى عبء الحصار الخارجي.

أما الأسوأ فهو تجاهل واقع الحال ممثلاً في أن المعركة لم تكن بين حماس وفتح، ولو كانت كذلك لاستمرت شهوراً طويلة، وإنما كانت حسب تعبير مصدر أمني مصري مقرب من الوفد الأمني العامل في قطاع غزة لصحيفة المصري المستقلة، بين 70% من الشعب الفلسطيني وبين فئة محدودة من حركة فتح.

تجاهل مخطط الانقلاب الآخر
لم يكن ما قاله هاني الحسن القيادي في حركة فتح مجهولاً من قبل المعنيين بالشأن السياسي، وهو ما أكده بالطبع الكاتب المصري المعروف محمد حسنين هيكل، أعني وجود خطة اسمها خطة دايتون للانقلاب على حركة حماس وضربها عسكرياً.

وقد قلنا ذلك في مقال هنا في هذا الموقع بعد يوم واحد من الأحداث، لكن أحداً من النخب إياها لم يتوقف عند ذلك، وكأن حماس قد قررت تنفيذ الانقلاب هكذا من دون مقدمات، وليس رداً على ضجر الناس من الانفلات الأمني، أو استباقاً لخطة عسكرية واضحة الملامح عنوانها الإقصاء العسكري لحركة فازت في الانتخابات، والنتيجة حسب هؤلاء هي أننا إزاء حركة انقلابية تسعى إلى الانقلاب على "الشرعية" من أجل إنشاء إمارة إسلامية أو ظلامية في قطاع غزة!

يحيلنا هذا إلى قصة الشرعية التي انقلبت عليها حركة حماس، وهنا جرى التعامل مع هذه القصة كأن حماس مجموعة من الانقلابيين أو الضباط الذين دخلوا مبنى الرئاسة والإذاعة والتلفزيون وأعلنوا بيانهم الأول، وليس بين حماس كحكومة شرعية منتخبة، الأصل أن تسيطر على أجهزة الأمن أو على الأقل الأمن الوقائي والشرطة، وبين مجموعة أخرى لا تريد لهذه الحكومة أن تستقر بحال من الأحوال.

أن يكون الرئيس منتخباً فهذا لا يغير من حقيقة أن الحكومة منتخبة أيضاً، إذ شكلتها حركة فازت في الانتخابات التشريعية إثر منافستها لآخرين من كافة الفصائل، بينما لم ينافس الرئيس عند انتخابه أحد من حماس.

ولا تسأل بعد ذلك عن عدد الناخبين رغم السماح للناس بممارسة حق الانتخاب عبر البطاقات الشخصية من أجل زيادة النسبة، فضلاً عن تجاهل أن الذي انتخب هو مرشح فتح بصرف النظر عن اسمه وليس محمود عباس ببرنامجه الرافض للمقاومة، ولو بقي مروان البرغوثي مرشحاً إلى جانب عباس لكانت النتيجة فوز الأول من دون شك.

هجاء الشعب ونعي القضية

"
القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين، بل هي قضيتهم المركزية ولا يمكن أن تضيع حتى لو باعها كل الفلسطينيين، وهم لن يبيعوها بالتأكيد
"

مما تابعناه خلال المرحلة الماضية بعد وقوع الحدث هو رفع الصوت بهجاء الشعب الفلسطيني بوصفه شعباً تافهاً يقتل بعضه بعضاً، فضلاً عن نعي القضية التي سحقت تحت أقدام المتقاتلين من فتح وحماس.

وفي هذا قدر هائل من التهويل وربما التزوير أيضاً، إذ يعلم المعنيون أن قضية فلسطين أكبر من حماس وفتح، وكانت قبلهما وستبقى بعدهما في حال لم تعودا ممثلتين لنضال الشعب الفلسطيني.

ثم إن الاقتتال الذي وقع بين الحركتين وهو محدود بالتأكيد، وكان محركه فريق تابع لتوجهات خارجية كما أشرنا من قبل، ذلك الاقتتال كان محدوداً ولا يمكن أن يشطب قضية تاريخية بحجم القضية الفلسطينية، وفي معظم التجارب المشابهة كان هناك اقتتال بين حركات المقاومة، إذ وقع ذلك في الجزائر وفيتنام وفرنسا وسواها، كما وقع سابقاً في فلسطين ذاتها أكثر من مرة قبل تأسيس منظمة التحرير، وتالياً بين قوى فتح ذاتها، ولا تسأل بعد ذلك عن تجربة أوسلو البائسة التي وضعت خيرة المجاهدين في السجون، وسلمت بعضهم للاحتلال أو قتلتهم لحسابه.

ثم إن القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين، بل هي قضيتهم المركزية ولا يمكن أن تضيع حتى لو باعها كل الفلسطينيين، وهم لن يبيعوها بالتأكيد.

أما الجانب الآخر فهو نعي حركة حماس بسبب الأخطاء المحدودة التي أشرنا إليها سابقاً وضخمتها سطوة الصورة و"بروباغاندا" التشويه المنظمة من قبل قيادات السلطة.

وهنا نقول إن الحركات الكبيرة والمتجذرة في وعي شعبها، وبخاصة على أسس دينية لا يمكن أن تنتهي بهذه البساطة، فكيف حين يكون لها تاريخها الكبير المشرف من التضحيات التي من بينها تقديم خيرة رجالها وقادتها شهداء وأسرى؟!

تعطيل الديمقراطية والإصلاح
من النغمات التي تابعناها في سياق الحديث عما جرى في قطاع غزة حديث بعض النخب إياها عن النوايا الشريرة للإسلاميين حيال العملية الديمقراطية كما أثبتها انقلاب حماس على الشرعية الفلسطينية.

"
الموقف من الإصلاح في العالم العربي لا صلة له البتة بأن من يطالبون به هم الإسلاميون، إذ لو كانوا علمانيين أو يساريين لما اختلف الأمر، لأن النخب الحاكمة في العالم العربي لن تسمح لأحد بمعارضتها أو منافستها بصرف النظر عن لونه وفكره
"

وهنا ذهبت تلك النخب تحذر الأنظمة من مغبة السماح لأولئك الإسلاميين بالتسلل من شقوق الديمقراطية للانقلاب عليها، بينما ذهب آخرون إلى نعي تجربة الإصلاح في العالم العربي بدعوى أن الأنظمة ستستخدم ما جرى في قطاع غزة ذريعة للنكوص عن الإصلاح لأن الإسلاميين هم المعارضة، وهؤلاء ثبت أنهم لا يؤمنون بالديمقراطية.

والحال أن كلا الخطابين بائس إلى حد كبير؛ الأول لأنه يتجاهل أن الطرف "الانقلابي" هو طرف شرعي جاء بانتخابات حرة ونزيهة، بينما منع من ممارسة حقه السياسي، وأنه فعل ما فعل دفاعاً عن الناس الذين انتخبوه، فضلاً عن استباقه لانقلاب عسكري قادم، وها هو يطالب غريمه بالمجيء إلى طاولة الحوار من أجل ترتيب الأمور والعودة إلى صيغة الشراكة السياسية كما تجسدت في اتفاق مكة.

ثم أين هم أولئك الإسلاميون الذين يتسللون من شقوق الديمقراطية للانقلاب عليها، وهم لا يتوقعون الحصول إلى أكثر من ربع مقاعد البرلمان في أحسن الأحوال، بينما تستخدمهم الأنظمة في سياق تكريس ديمقراطية الديكور التي لا تأخذ من الديمقراطية سوى أشكالها الخارجية (برلمان، أحزاب، انتخابات).

ولا تسأل بعد ذلك عن السؤال المتعلق بالفارق بين غزة والدول الأخرى، وحيث لا تملك تلك القوى أية مليشيات، اللهم إلا إذا صدّق البعض أن خمسين طالباً من الإخوان المسلمين في جامعة الأزهر كانوا يمارسون ألعاباً رياضية يدوية هم مليشيات ستسحق مليون عنصر من الأمن المصري إضافة إلى نصف مليون جندي!

أما نعي تجربة الإصلاح بسبب ما جرى في القطاع فهو هراء أيضاً لأنه يمنح خطاب بعض الأنظمة المتوقع شكلاً من المصداقية، ونشير هنا إلى أن نعي تجربة الإصلاح قد سبق "انقلاب غزة" العظيم، إذ انتهى عندما تركته الولايات المتحدة بعد أن تبين أن البديل هم الأكثر عداءً لها فآثرت الكف عن الضغط في هذا الاتجاه مقابل الحصول على مواقف في العراق وفلسطين وسواها، وهكذا سكتت عن حكاية الإصلاح ولم نعد نسمع لها صوتاً في هذا المضمار.

بقي أن يقال إن الموقف من الإصلاح في العالم العربي لا صلة له البتة بأن من يطالبون به هم الإسلاميون، إذ لو كانوا علمانيين أو يساريين لما اختلف الأمر، لأن النخب الحاكمة في العالم العربي، والتي امتلكت السلطة والثروة في آن معاً لن تسمح لأحد بمعارضتها أو منافستها بصرف النظر عن لونه وفكره.

الجزيرة ووسائل الإعلام
من بلاوي النخب إياها خلال الحدث الأخير وبعده ما يتعلق بالتغطية الإعلامية، لاسيما فضائية الجزيرة التي تعرضت لسيل من الشتائم بدعوى انحيازها لحماس، وصولاً إلى قيام "زعران" من فتح في الضفة الغربية باختطاف شقيق المدير العام للفضائية وضاح خنفر، قبل الإفراج عنه بعد أسبوع من احتجازه.

"
النخب المنحازة ضد حماس والإسلاميين عموماً ترى في قناة  الجزيرة عدواً لها، لأنها ببساطة ترسم الصورة كما هي، الأمر الذي سيعني بالضرورة خسارة  لهذه النخب وربحاً للإسلاميين، تماماً كما يحدث لذات الفضائية مع الولايات المتحدة
"

والحال أن متابعة فضائية الجزيرة منذ مجيء حماس إلى الحكومة ما زالت تشير إلى تحيز من طرفها لصالح حركة فتح، والسبب الواضح هو خوف مراسليها هناك من سطوة "الزعران" التابعين لدحلان وسواه، وقبل شهور لم يكد أبو علي شاهين يشتم الجزيرة أمام الملأ حتى كان أصحابه يحرقون سيارات البث التابعة لها في رام الله.

هذه المرة غضب القوم عندما أشارت الفضائية إلى الانتهاكات التي قام بها عناصر فتح ضد مؤسسات حماس ورجالها في الضفة الغربية، وهو ما أدى إلى تجاهل هذا الموضوع لاحقاً على رغم أهميته ومساسه بمئات المؤسسات والعناصر، في وقت يتحرك فيه عناصر فتح في غزة، بل يتظاهرون من دون أن يمنعهم أحد.

لا نتحدث هنا عن النخب التابعة للسلطة فحسب، بل عن النخب المنحازة ضد حماس والإسلاميين عموماً، والتي ترى في الجزيرة عدواً لها، لأنها ببساطة ترسم الصورة كما هي، الأمر الذي سيعني بالضرورة خسارة لهذه النخب وربحاً للإسلاميين تماماً كما يحدث لذات الفضائية مع الولايات المتحدة.

مجرد نموذج لبؤس المواقف
هنا نموذج أخير لبؤس مواقف النخب إياها مما جرى في قطاع غزة، وتبعاً لذلك الموقف من الإسلاميين، فقد أصدرت ألف شخصية ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية فلسطينية على رأسها الشاعر محمود درويش بياناً يبدو أن هذا الأخير هو الذي كتبه أعلنت من خلاله رفضها لما وصفته بـ"الانقلاب العسكري الدموي" الذي قامت به حماس في قطاع غزة.

ويقول البيان المعنون بعبارة "لنحمي وندافع عن المشروع الوطني" إن "ما حدث في غزة انقضاض سياسي يتعدى تقويض الشرعية ومؤسساتها، بما يعرّض المشروع الوطني لخطر التبديد". مضيفاً أن "ما أنجزناه بباهظ الثمن في مسيرة أربعين عاماً تعرض لصدمة بالغة قد تقوضه وتهدد شرعية التمثيل السياسي وحق إقامة الكيان الوطني المستقل".

ولم يتوقف البيان عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى رفض ونبذ ما أسماه تيار "الإلحاقية والإلحاقيين الجدد، وكذا محاولات الإلحاق المستندة إلى رؤى ومشاريع شمولية دينية خارج الوطن الفلسطيني".

بالله عليكم هل يعبر هذا الكلام السخيف عن ضمير الشعب الفلسطيني، فضلاً عن ضمير الشارع العربي والإسلامي، أم أنه مجرد تعبير عن مواقف نخب معزولة تنفس عن حقدها أو تركض خلف مصالحها الذاتية والفئوية؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.