مطاردة قطاع غزة لإخراجه من دائرة الصراع

مطاردة قطاع غزة لإخراجه من دائرة الصراع


الأهداف المعلنة للعمليات
خلفيات الانسحاب من القطاع والدولة المؤقتة
كاديما وغياب شارون ومجيء أولمرت
القطاع كدولة من دول الجوار
هل سينجح المخطط؟

يخطئ من يعتقد أن ما جرى في بيت حانون مؤخراً هو خاتمة الأحزان بالنسبة لقطاع غزة، فالمجزرة وقبلها المعركة برمتها هي مجرد فصل عادي في معركة يعوّل المحللون على أن لا تطول كثيراً قبل تحقيق أهدافها الأولية، والأهم هدفها الإستراتيجي.

من الضروري الإشارة هنا إلى ما نقلته الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية من أن عملية بيت حانون كانت مجرد جراحة عادية، وليست هي العملية الكبيرة التي يعدّ لها الجيش بتوجيه من المستوى السياسي، حتى قبل انضمام المتطرف اليميني أفيغدور ليبرمان إلى حكومة إيهود أولمرت، وشعور هذا الأخير بإمكانية تمتع حكومته بكامل مدتها القانونية، بما يمنح حزب كاديما فرصة تثبيت أقدامه في الساحة السياسية الإسرائيلية.

ينبغي التذكير أيضاً بأن عمليات القتل في قطاع غزة لم تتوقف منذ الانسحاب الإسرائيلي منه قبل عام ونيف، فمنذ ذلك التاريخ قتل الإسرائيليون المئات وجرحوا الآلاف من الأطفال والنساء والرجال، ووصل الحال حد اختطاف العديد من الشبان من بيوتهم عبر عمليات كوماندوز.

الأهداف المعلنة للعمليات

"
الأهداف الآنية المعلنة للعمليات الإسرائيلية في غزة وآخرها في بيت حانون تتعلق بوقف الصواريخ الفلسطينية, والقضاء على الأنفاق وتهريب السلاح، وتحرير الجندي شاليط من أجل حرمان حماس من إنجاز عملية تبادل للأسرى بصرف النظر عن حجم المفرج عنهم
"

في سياق الأهداف الآنية المعلنة لكل تلك العمليات التي لم تتوقف فصولاً منذ الانسحاب الإسرائيلي، وآخرها عملية بيت حانون، هناك الهدف المتعلق بوقف إطلاق الصورايخ على البلدات الإسرائيلية، أو وقف الإرهاب القادم من قطاع غزة بشكل عام، كما هو حال عملية الوهم المتبدد التي أصابت جيش الاحتلال وعموم المجتمع الإسرائيلي بالذهول تبعاً لحرفيتها وجرأتها.

في سياق الحديث عن قضية الصواريخ يمكن القول إن كثيراً من الهجاء والتسخيف ما زال يتوفر في الوسط الفلسطيني الرسمي حيالها، وآخر ذلك وصف الرئيس الفلسطيني لها في حوار مع صحيفة إسرائيلية بأنها مجرد "مواسير" أو مفرقعات بلا قيمة، فيما يبدو الموقف على الطرف الآخر مختلفاً، ليس من الزاوية العسكرية والمعنوية فقط، وإنما أيضاً من الزاوية السياسية الأهم التي يركز عليها هذا التحليل.

مع العلم أن حقيقة كون الصواريخ من قدرات الردع الفلسطينية لم تكن موضع جدل في الوسط الإسرائيلي، حتى قبل الانسحاب من المستوطنات في القطاع.

هناك بالطبع ما يتعلق بظاهرة الأنفاق وتهريب السلاح، وهي قضية ليست هامشية، لاسيما أن معلومات ما زالت تتدفق على الإسرائيليين تقول إن حماس تعمل على بناء ترسانة عسكرية في القطاع، أكان من أجل تكرار تجربة حزب الله في الجنوب، كما تشير بعض التقديرات، أم من أجل الحيلولة دون الانقلاب عليها من قبل حركة فتح وأجهزة السلطة.

ثمة هدف آخر لعملية بيت حانون الأخيرة على وجه التحديد يتمثل في محاولة تحرير الجندي الأسير جلعاد شاليط، ربما تبعاً لإخبارية بوجوده في المنطقة المشار إليها، وربما على أمل أن يقوم خاطفوه بتحريكه من مكانه بسبب العمليات، بما يمكن جيش العملاء وأجهزة الرصد من تحديد مكانه والوصول إليه، لاسيما أن المتعاونين مع الاحتلال في سياق البحث عنه ليسوا قلة هذه الأيام، وذلك من أجل حرمان حماس من إنجاز عملية تبادل للأسرى بصرف النظر عن حجم المفرج عنهم.

خلفيات الانسحاب من القطاع والدولة المؤقتة
من الصعب على أي محلل أو مراقب إدراك مغازي الحملات العسكرية المتوالية على القطاع، ومعها عمليات القتل اليومية بحق النشطاء والفاعلين في العمل العسكري في الفصائل، وصولاً إلى العملية الكبيرة الموعودة، من دون العودة إلى خلفيات الانسحاب وتفكيك المستوطنات في القطاع على يد شارون الذي كان يراها بأهمية تل أبيب.

من الضروري التذكير هنا بأن القطاع لم يشكل خلال انتفاضة الأقصى العبء الأكبر على المحتلين، إذ إن عدد من قتلوا من جنود الاحتلال ومستوطنيه منذ نهاية سبتمبر/أيلول عام 2000 وإلى الآن، لا يساوي سوى 15% من مجموع خسائره البشرية، ولو كانت المسألة مرتبطة بالخسائر لانسحب من الضفة الغربية.

سبب ضعف الخسائر في صفوف المحتلين رغم الإمكانات العسكرية الكبيرة لقوى المقاومة في القطاع نابع في الأساس من الجدار الإلكتروني الذي يحيط به ولا يسمح للمجاهدين بالوصول إلى العمق الإسرائيلي كما هو حال إخوانهم في الضفة الغربية.

أما الجانب الثاني فيتعلق بقلة المواقع التي يمكن استهدافها، لاسيما في ضوء التحصينات الهائلة للمستوطنات، والتي تمكن المجاهدون رغم كل شيء من كسرها في كثير من الأحيان عبر إبداع يفوق التصور، كما هو حال ظاهرة الأنفاق.

"
كان قرار الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة شكلاً من أشكال الهجوم السياسي من قبل شارون بعد فشله في مواجهة الانتفاضة والعزلة الدولية التي واجهها، ومن ثم ضغوط يهود الخارج بعد شعورهم بأن دولتهم الأم قد غدت عبئاً عليهم
"

لقد جاء الانسحاب من القطاع ضمن برنامج سياسي صاغه شارون وتبناه منذ وجوده في المعارضة. صحيح أنه لم يكن يتخيل إتمامه بتلك الطريق المذلة، لكن الانسحاب بحسب ذلك البرنامج الذي كان يسمى الحل الانتقالي بعيد المدى كان قادماً في أي حال، والذي يعتمد على فرض الاستسلام على العرب والفلسطينيين، ودفعهم إلى قبول دولة مؤقتة تصبح مع الوقت دائمة على قطاع غزة و42% من الضفة الغربية.

بحسب شارون وبرنامجه كان على الدولة المؤقتة التي ستقوم أن تؤبد النزاع وتجعله مجرد نزاع حدودي بين دولتين مكانه الأروقة الدولية أو الحوارات الجانبية، وما من شك أن وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في العام 2000 قد منح شارون رخصة المضي في هذا البرنامج على اعتبار أن في البيت الأبيض إدارة منحازة إلى الكيان الصهيوني لم يسبق أن توفرت من قبل، وجاء وعد بوش لشارون في أبريل/نيسان عام 2004 ليؤكد المسار ويدعمه.

من جانب آخر كان قرار الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة شكلاً من أشكال الهجوم السياسي من قبل شارون بعد فشله في مواجهة الانتفاضة والعزلة الدولية التي واجهها، ومن ثم ضغوط يهود الخارج بعد شعورهم بأن دولتهم الأم قد غدت عبئاً عليهم.

لكن ذلك لا ينفي بحال أنه جاء ضمن ذات المخطط الذي تبناه شارون وازداد تشبثاً به مع مجيء المحافظين الجدد، ثم الحلم بإتمامه سريعاً بعد مشروع احتلال العراق وقصة إعادة تشكيل المنطقة التي حملها المشروع.

كان شارون قد أخذ يرتب الأجواء لإتمام مشروعه، فكان أن اغتال الشيخ ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وألحقهما بياسر عرفات، وكل ذلك من أجل تهيئة الأجواء لقدوم قيادة فلسطينية جديدة تؤمن بالمسار السياسي وحده وترفض المقاومة المسلحة، ومثل هذه القيادة وحدها (محمود عباس ودحلان والمجموعة المعروفة) هي المؤهلة لتمرير مشروع الدولة المؤقتة وتأبيد النزاع.

وقد لوحظ مؤخراً أن عملية إحكام هذه المجموعة سيطرتها على حركة فتح قد بلغت مداها بانتخاب محمود عباس رئيساً لحركة فتح، والترتيب لعقد المؤتمر السادس للحركة بما يمهد لإضافة أعضاء جدد للمجلس الثوري وللجنة المركزية من ذات التيار.

كاديما وغياب شارون ومجيء أولمرت
تأسس حزب كاديما على أساس برنامج سياسي واضح هو ذاته برنامج شارون للحل الانتقالي بعيد المدى بعد أن حمل مسمى مشروع الحل الأحادي الجانب، وذلك بعد الشروع ومن ثم التقدم في بناء الجدار الأمني حول الضفة لغربية الذي التهم عملياً ما يزيد عن نصفها، أي أنه كان ترجمة عملية للمشروع كما فكر فيه شارون.

كاديما إذاً حزب بمشروع سياسي يتعلق بالفلسطينيين أكثر من أي شيء آخر، وقد ورث أولمرت الحزب على هذا الأساس، وإذا اعتقد البعض أن بوسعه تغيير المسار فهو واهم، لأن تغييراً من هذا النوع يعني غياب الحزب من الحياة السياسية عند أية محطة جديدة.

"
غياب شارون ومجيء أولمرت ومعركة لبنان وقبلها استمرار الحرب على القطاع وفوز حماس لا يعني انتهاء مشروع شارون للحل الأحادي الجانب، والذي غدا مشروع كاديما، وبالتالي مشروع أولمرت إذا أراد البقاء في المشهد السياسي 
"

يرى البعض هنا أن غياب شارون ومجيء أولمرت ومعركة لبنان، وقبلها استمرار الحرب على القطاع وفوز حماس قد أنهت مشروع الحل الأحادي الجانب، الأمر الذي لا يبدو صحيحاً بحال، بل إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن كل ما يجري الآن هو من أجل إتمام المشروع.

من المؤكد أن هزيمة إسرائيل في لبنان كانت مفاجأة بالغة السوء بالنسبة لأولمرت، ولعل ذلك هو ما دفعه إلى ضم ليبرمان بعد أن شعر أن وضعه الداخلي مهدد، الأمر الذي ينطبق بشكل من الأشكال على فوز حماس في الانتخابات، والذي جاء مفاجئاً هو الآخر، لكن ذلك كله لا يعني بحال نهاية المشروع، مشروع شارون الذي غدا مشروع كاديما، وبالتالي مشروع أولمرت إذا أراد البقاء في المشهد السياسي.

ربما نضيف هنا القول إن حزب العمل بزعامته القديمة والجديدة قد أيد مشروع شارون للانسحاب أحادي الجانب، وهو على استعداد للتعامل معه في المراحل المقبلة، وربما هو ذاته ما يفسر أيضاً بقاء الحزب في الحكومة رغم ضم اليميني المتطرف ليبرمان إليها.

القطاع كدولة من دول الجوار
هنا يتبدى الهدف الأساسي أو الرئيس من كل العمليات العسكرية التي استهدفت القطاع وستستهدفه، مع وجود هدف آني أو مرحلي يتمثل في إسقاط حكومة حماس لكي تعود القيادة الفلسطينية المفضلة إلى مواقعها من دون منغصات، مع العلم أنها لم تغادر سوى القليل منها خلال الشهور الماضية.

لا ينفصل هدف إقصاء حماس عن الحكومة عن الهدف الإستراتيجي الذي كان موجوداً وسيبقى قبل حكومة حماس وبعدها، فالحملات العسكرية القادمة ستركز بشكل أساسي على خلع أنياب حماس العسكرية من أجل تسهيل الانقلاب الفتحاوي عليها، وإعادة الوضع إلى نصابه، مع العلم أن إمداد الحرس الرئاسي بالمال والسلاح من الأردن ومصر هو جزء من الخطة الرامية لإسقاط حماس، فضلاً عن إنزال قوات بدر الموجودة في الأردن إلى القطاع والضفة.

أما تشكيل حكومة الوحدة الوطنية فيتم في إطار ظرف سياسي خاص لا يغير في البرنامج الإستراتيجي لقيادة فتح المذكورة، ولا الجهات التي تدعمها، مع العلم أن أحداً من هؤلاء لم ييأس من إمكانية استدراج حماس إلى مواقف تضر بمصداقيتها وتسهل الانقلاب عليها، إبعادها من خلال الانتخابات القادمة.

خلاصة اللعبة المطلوبة هي إخراج القطاع من دائرة الصراع مع الاحتلال، وهو هدف سمعناه منذ الأيام الأولى للانسحاب الإسرائيلي، حين فتح ملف أسلحة المقاومة، بخاصة حركة حماس، وذلك كي يصبح مثل الدول العربية المحيطة مع شعارات تتحدث عن التنمية والبطالة، وعندما تنجح التجربة سيكون بالإمكان نقلها إلى الضفة الغربية، وبالتالي قيام الدولة المؤقتة ذات النزاع الحدودي مع جارتها.

"
خلاصة اللعبة المطلوبة هي إخراج القطاع من دائرة الصراع مع الاحتلال كي يصبح مثل الدول العربية المحيطة, وعندما تنجح التجربة سيكون بالإمكان نقلها إلى الضفة الغربية، وبالتالي قيام الدولة المؤقتة ذات النزاع الحدودي مع جارتها
"

من خلال المفاوضات وبعد التأكد من سيطرة القيادة الفتحاوية الجديدة على الوضع قد يجري تحسين شروط حياة تلك الدولة من خلال بعض مظاهر السيادة، لكن جوهرها من حيث المساحة والتسلح يبقى كما هو دولة كانتونات يتحكم الاحتلال بها، ولا يمكنها التمرد عليه في يوم من الأيام، فيما تفتح له أبواب التطبيع مع الدول العربية.

جاءت حماس لتخرب هذه اللعبة، ليس فقط بفوزها في الانتخابات وتسلمها للحكومة، بل، وهذا هو الأهم، برفضها الاعتراف بدولة الاحتلال رغم الحصار والضغوط والابتزاز، أما الأكثر أهمية فهو رفضها للعبة إخراج القطاع من دائرة الصراع ونفض يده من المقاومة، على رغم أن أصواتاً من داخل الحركة قد خرجت تتحدث عن وجود المقاومة حيث يوجد الاحتلال، وعن أن القطاع قد تحرر ويجب وقف الأعمال المسلحة.

ونتذكر ذلك الاحتفاء الفتحاوي بمقالين لأحد رموز حماس تصب في ذات الاتجاه الذي يهجو العسكرة والمظاهر المسلحة، مع الحديث عن القطاع كما لو كان منطقة محررة، من دون أن يكون قد قصد ما ذهبوا إليه.

من خلال جميع الحملات العسكرية القادمة سيعمل الاحتلال على توفير الأجواء أمام إقصاء حماس من الحكومة، مع نزع مخالبها العسكرية، وضرب بنيتها التحتية، ومنح كل أسباب القوة للفريق إياه في فتح والسلطة، بما يستعيد المرحلة الثانية من أوسلو، وبما يوفر الأجواء لإخراج القطاع من دائرة الصراع ونقل التجربة إلى الضفة الغربية وصولاً إلى الدولة المؤقتة وتأبيد النزاع.

مع العلم أن انتظار الانتخابات القادمة بعد ثلاث سنوات ليس مستبعداً أيضاً، إذ ربما يستخدم الوقت من أجل حسم سيطرة جماعة رفض العسكرة على حركة فتح، وبالتالي على السلطة.

هل سينجح المخطط؟

"
مشروع إخراج غزة من دائرة الصراع لن ينجح، ليس فقط قياساً على اللعنة التي لازمت مشاريع المحافظين الجدد وحلفائهم في الدولة العبرية منذ ست سنوات، وإنما أيضاً لأن الشعب الفلسطيني لن يقبل بحكم كرزاي، ولأن روح المقاومة فيه تختلف كثيراً عما كانت عليه
"

لا نمعن في التفاؤل حين نقول إن مشروعاً من هذا النوع لن ينجح، ليس فقط قياساً على اللعنة التي لازمت مشاريع المحافظين الجدد وحلفائهم في الدولة العبرية منذ ست سنوات، وإنما أيضاً لأن الشعب الفلسطيني لن يقبل بحكم كرزاي، ولأن روح المقاومة فيه تختلف كثيراً عما كانت عليه خلال النصف الثاني من التسعينيات، فضلاً عن إمكانية افتضاح المجموعة إياها في أوساط السلطة، والتصعيد عليها حتى ضمن دوائر حركة فتح ذاتها.

الأهم أن فشل الأميركان في العراق وأفغانستان، وما سيترتب عليه سياسياً في المنطقة من تمرد شعبي، ووجود أجواء مقاومة وتحد منقطعة النظير في الأمة، كل ذلك يجعل من المستحيل تمرير مشروع من هذا النوع.

كل ذلك يعني أنه ليس أمام الإسرائيليين سوى التراجع، والقبول بحل سياسي يرتضيه الوضع العربي برمته، وفي حين يصعب الجزم بإمكانية ذلك، فإن وقوع أمر من هذا النوع على ضآلة احتماله لن يمنع كثيرين في فلسطين وخارجها من المضي في مطاردة كيان كان ولا يزال عنواناً لسعي الغرب لإذلال هذه الأمة، وصولاً إلى شطبه من المنطقة برمتها.
ــــــــــــ
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.